تابعنا
كم نستشعر ضآلة الأنا عندما نُغَيِّرُ نظاراتنا الاعتيادية؟ كم نُعَدِّدُ خساراتنا البلا حدود ونحن نَنْصَفِعُ اليوم بهذا الفيروس العولمي؟ كم نكتشف هشاشتنا القصوى قبالة اللا معنى واللا جدوى، وكل هذا الخراب الذي أفرزته جائحة كورونا؟

نحن مخدوعون وواهمون، فليس ما يلوح في هذي المعارك الصغيرة التي نخوضها باستمرار، هو الحياة، وهو الأجدى بالتعلق والرهان، وليس التسابق الأعمى نحو "الأنانيات" المرضية والتمايزات" الفارغة، هو ما يثبت التفوق والفارقية. فالفيروس التاجي هو المتوَّج اليوم بلا تاج ولا صولجان، وهو الذي يَتَسَيَّدُ العالم ويُحكِم القبضة عليه، هو الحر الطليق الذي يتربص بنا، فيما نحن "المحكوم عليهم" بالحجر والـ"عن بعد".

فلم تنفعنا اليوم، وبالمطلق، سباقات التسلح والسيطرة الكوكبية ولا صواريخ باتريوت ولا فزاعات داعش والقاعدة، ولا بنيات الاستبداد والبلطجة الدولية، لم تنفعنا حمى صيحات الموضة والاستهلاك والتتفيه والرأسملة والتذرير، لم تُجْدِ نفعاً في إهداء السلامة الصحية لمواطني هذا العالم الذي يجرب عولمة الموت. لا شيء يجدي غير ما استثمرناه، إن كنا قد فعلنا حقّاً، في العدالة المجالية والاجتماعيةوالمنظومات الصحية والمختبرات البحثية، التي تسابق الزمن لتخليص الإنسانية من هذا الوباء القاتل.

لقد حشَرَتنا الليبرالية المتوحشة قسراً في سياق المزيد more and more الذي يجعل مِنَّا كائنات استهلاكية مرتبطة بالسوق ومنفصلة عن الواقع، بحيث لا ننتهي من "التبضع" والتمظهر الاقتصادي، في إلغاء تامّ لباقي أبعادنا الإنسانية والقيمية الأخرى، لقد حولنا سياق المزيد إلى "أرقام" تُستغل وتُستعمل في مضاربات البورصة والحروب والصراعات الهوياتية القاتلة.

صرنا كفئران تجارب، لا هَمَّ لها سوى التسابق نحو تملك المزيد من التقنية والثروة والسلطة والنفوذ، كل بطريقته التي تحيل على انتمائه المراتبي وخيراته الرمزية والمادية. والنتيجة في النهاية، فردانية معيبة وأنانية مقيتة في خدمة المزيد من الاستبداد و"التنقيد"(من النقود) والتفكيك المستمر للرابط الاجتماعي.

لكن الجائحة، وبسبب الحجر الصحي، ستفرض علينا سياقاً جديداً يمكن تسميته بالـ"عن بعد"، حيث تنضبط كل الممارسات الطقوسية واليومية إلى منطق "ترسيم" و"تضبيط" للمسافة الاجتماعية بين الأفراد، فالتعليم عن بعد Distance Learning والعلاقات عن بعد Long distance Relationship والتبضع عن بعد، بل وحتى التحية عن بعد.

فالتباعد الاجتماعي واللا حميمية في التواصل والتفاعل الإنساني، كلها "ممارسات/خطابات" مطلوبة، وبإلحاح، لحفظ النفس والحياة. إذ لم يعُد مطلوباً من الأفراد أن يُمعِنوا في العناق وشدّ الأيادي بحرارة لافتة، للتعبير عن المودّة والسلام، ليس مطلوباً منهم اليوم سوى الابتعاد والتعقيم وتكميم الوجوه، فكل شيء يُعاد إنتاجه وفق منظومات صحية احترازية، توجب التباعد لا التقارب، والحذر لا الاطمئنان، والخوف لا الأمان.

إن الخيار المتاح الذي يوصي به الجميع هو المكوث بالبيت، واختبار سياق الـ"عن بعد"، وهو ما سيتيح للأفراد والجماعات والدول، الدخول في مراجعات عسيرة، ومصالحات ممكنة، بل وحتى مواجهات مقلقة مع الإخفاقات التنموية والاختيارات السياسية اللا شعبية، فالجائحة في مستوى تدبيرها، تجعلنا، أمام حصاد الهشيم، أمام ما زرعناه قبلاً من حرب على القطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم، ومن تدمير للبناء الأسري، عبر التفقير والتجهيل والتبخيس، ومن إلغاء لدور المواطن في صناعة القرار، عبر توطين الاستبداد والتسلُّط.

إن كثيراً من الدول، تحديداً في أوساط الفقر والهشاشة، تجد صعوبة بالغة في إقناع الناس باحترام الحجر الصحي والعودة إلى المحضن الأسري، وكم تتناسى ذات الدول أنها لم توفر لهؤلاء سكناً كريماً وعدالة مجالية وتأمينات اجتماعية ضدّ فقدان الشغل، وأنها أغرقت شباب هذه الأوساط في مسارات الهدر المفتوحة على إدمان المخدرات والانقطاع عن التعليم واللهاث وراء الكرة ونجوم التفاهة، فكيف، والحالة هذه، نريد "مواطناً" محترَماً للحجر الصحي، ودون معلّم وفي خمسة أيام؟ ونحن لم نُهْدِهِ قبلاً إعلاماً تنويريّاً ولا سكناً لائقاً ولا عملاً دامجاً، كل ما أهديناه إياه هو الجهل المقدس والفقر المدنس والهدر المُؤَسَّس.

تشير الإسقاطات الإحصائية إلى أن أزيد من 150 مليون مواطن في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط يعيشون في سكن حاط بالكرامة، وأنهم يعيشون مع أسرهم أو بمفردهم في غرفة واحدة، فكيف نقنع هؤلاء بضرورة احترام الحجر الصحي؟

طبعاً فالجائحة كان لها بعد ديمقراطي في شيوعها بين الفقراء والأغنياء، بين الدول الغنية والأخرى الفقيرة، لكنها لم ولن تكون ديمقراطية في مستوى التفاوض معها، وتدبيرها فرديّاً أو جماعيّاً.

إن للحجر الصحي أبعاداً لا ديمقراطية أيضاً، إذ تنكشف الفروق بين ما انزرع قبلاً من تنمية وعدالة وبناء، أو من هدر وتفاوت وهدم، إلى الدرجة التي بتنا نلاحظ فيها نسباً عالية للتعافي في مقابل ارتفاع لمعدَّلات الوفيات، والمحدّد طبعاً هو الوجود الأسبق لمنطق الدولة/الرعاية الصالحة أو الدولة الحارسة الفاسدة.

في العودة إلى الأسرة ترتيب جديد للعلاقات والأدوار والقيم، وثمة تدوير آخر للمعنى الذي تحيل عليه الوقائع والأشياء، فالحركة مقيدة ومشروطة، والكلام مراقب والتفاعل/التقارب ممنوع والانفعال منمَّط وفق سردية الرعب والترعيب، لهذا باتت الأسر تختبر قدراتها على التعايش تحت نفس السقف، وكذا على المواجهة والاحتكاك، وعلى مدار الساعة، فضلاً عن اكتشاف أدواتها في تدبير الأزمات ومجابهة الخطر.

إننا نعيش اليوم، وفي عز الحجر الصحي، فائضاً من قيمة الزمن، وارتباكاً في ساعاتنا البيولوجية والاجتماعية والنفسية، التي تخصّ أيضاً أحبّتنا الذين نكتشفهم من جديد، بعد أن سرقتنا منهم، ولسنوات، سياقات المزيد، ما أنتج فراغات من الدهشة والحيرة والتشظي، لم نتوفق، إلا في ما ندر، في تدبيرها بحاءات ثلاث مفتوحة على الحب والحلم والحكمة. فالعودة القسرية إلى "الزمن الأسري" لم تكن مأمونة العواقب، في كل الأحوال والمآلات.

وعليه فإن "إنسان/منتوج" سياق المزيد الذي كان منفصلاً عن أسرته بسبب عبودية العمل ورأسمالية الكوارث، سيجد صعوبة بالغة في التأقلم مع هذا الوضع الجديد، فقد كانت الأسر قبلاً، عبارة عن مؤسسة بيولوجية فندقية تختص في الإنجاب وتوفير المأكل والمرقد لا غير، كانت مجرد أرخبيل من الجزر المتناثرة، حيث كل فرد مسافر زاده خيال النت وجنون الاستهلاك وتشظيات الأنا.

والنتيجة ما نبّهَت له منظمة الصحة العالمية بشأن العنف الأسري الذي تنامى في سياق الجائحة، فالتوترات والمشاجرات ومختلف صنوف التعنيف بين الأزواج وفي حق الأبناء، شهِدَت ارتفاعاً ملحوظاً، في دول الشمال كما الجنوب، لأن سياق المزيد الذي أهدتهم إياه الرأسمالية المتوحشة، سرقهم من ذويهم، ولم يترك لهم مساحات لفن التعايش والتضامن والتواشج عندما يأتي الإعصار، علّمهم سياق المزيد أن يكونوا أنانيين و"متوحدين إلكترونيّاً" وخائبين على مستوى بناء جسور المحبة والأمل.

عموما فإن هذه العودة القسرية إلى البيت، ستدعو الجميع إلى مُساءَلات للمعنى الذي تكتنزه مفاهيم الحياة والموت والفرد والجماعة والدولة، وستدعو أيضاً إلى إعادة ترتيب الأوراق والأولويات والحسابات والمحاسبات، ما يشير إلى احتمال بروز موجة قادمة من ربيع الشعوب، لإعادة بناء تعاقد جديد بين المواطن والدولة وبين الدول واتحاداتها القارية وعلاقاتها العولمية، لا مناصَ إذاً من تَحسُّس صفعة جائحة كورونا قبل فوات الأوان. فلربما يغدو سجل الـ"عن بعد" الذي يتشكَّل اليوم، وبسبب الجائحة، أكثر إنسانية وأقلّ استهلاكاً وتعصُّباً واحتباساً من الناحية القيمية، وتحديداً في حالة استفاقة الضمير واستيعابه للدرس التاريخي القاسي، لأنه من الممكن أيضاً في ظلّ فرضية مضادّة، أن يصير سياق الـ"عن بعد" أكثر إيلاماً ووحشة وعنفاً. كل شيء وارد، والقرار بيد الإنسان.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

يرتدي اناس  الأقنعة الواقية ويتخذون مسافة وهم ينتظرون لدخول لصيدالية في روما  (AP)
TRT عربي
الأكثر تداولاً