تابعنا
أعلن الرئيس الأمريكي في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي عن "صفقة القرن" والتي جاءت في إنكار تام للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وعلى رأسها القدس وحق العودة.

وأخيراً أعلن ترمب عن الجزء السياسي من صفقته المسماة صفقة القرن. لقد تردد على مدى سنوات في إعلان الصفقة، وتقديري أنه لم يكن واثقاً من تطبيق هذه الصفقة بسبب رفض الشعب الفلسطيني المسبق لها.

ولم يكن الرفض الفلسطيني مجرد رد فعل فوضوي تجاه الصفقة، وإنما كان مبنياً على خبرة تمتد على عشرات السنوات في السياسة الأمريكية الهمجية العدائية ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. لم يكن ترمب مطمئناً بأن صفقته ستمر، لكن الظرف الداخلي الأمريكي حفزه للقيام بمبادرة ما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية التي لا يتقن لعبها فقرر بالأخير إعلان الصفقة.

لم يقدم ترمب شيئاً للشعب الفلسطيني، وقدم للصهاينة كل ما طلب نتنياهو فيما يتعلق بالقدس والاستيطان والجولان، إلخ. تحدث ترمب عن دولة فلسطينية ضِعف المساحة التي يجري الحديث عنها، لكنه لم يحدد معنى الضِّعف ولا معنى المنطقة التي يجري الحديث عنها.

ربما هو يعني المنطقة أ التي تتمتع فيها السلطة بصلاحيات ممنوحة من قبل السلطات الإدارية والأمنية الإسرائيلية. طبعا هذه المناطق ليست محرمة على الصهاينة، وهم يجوبونها باستمرار. تشكل هذه المنطقة 18% من مساحة الضفة الغربية، وضعفها يساوي 36%، أي حوالي 2000كم2.

والدولة مشروطة بمنع الإرهاب، أي منزوعة السلاح، وتعمل كما السلطة الفلسطينية وكيلاً أمنياً للكيان الصهيوني. هذا وقد نسف ترمب صفقته في بداية حديثه عندما قال إن القدس عاصمة إسرائيل غير القابلة للتجزئة. صفقة ترمب غير قابلة للتطبيق وغير مقبولة للشعب الفلسطيني، وأغلب ما ورد فيها جرت الموافقة عليه أمريكيّاً سابقاً.

وأنا أتابع كلمة ترمب شعرت بإهانة كبيرة وذل؛ لأن الأمم الأخرى تتحدث عن مصيرناً ومستقبلنا ونحن نقف على الرصيف عراة نستجدي الشفقة والرحمة. منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى الآن، والتلاعب بنا مستمر، والآلام والأحزان تلاحقنا. لقد أجرم أهل أوسلو وألحقوا بنا المهانة والهوان. كنا نكبر بمقاوماتنا، والآن نختبئ من سوء أعمالنا.

سبق أن كشفت واشنطن عن الجزء الاقتصادي لصفقة القرن، وما وجدناه أن أمريكا لا تدع الفلسطينيين يطورون اقتصاداً خاصاً بهم، وهي تصر على تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الصهيوني، وتستمر في وضع لقمة خبز الشعب الفلسطيني بيد أعداء الشعب الفلسطيني، وذلك من أجل الاستمرار في شلّ الإرادة الفلسطينية وتغييب الفلسطينيين عن واجبهم الوطني في مواجهة التحديات التي يفرضها الاحتلال وأمريكا. ولهذا لم يكن من المتوقع أن يأتي الجزء السياسي من الصفقة بجديد مختلف عن التبعية الفلسطينية. الجزء السياسي لا بد أن يكون امتداداً للجزء الاقتصادي، وهذا ما نراه الآن بعد الإعلان.

ثمة إجماع فلسطيني على رفض صفقة القرن نظرياً، لكنه من الصعب أن نرى إجماعاً ميدانياً إجرائياً عملياً لمواجهتها. لدينا مقاومة فلسطينية في غزة، لكنها ليست على احتكاك مباشر مع الاحتلال بسبب عدم وجود قوات إسرائيلية في القطاع، وفاعلية هذه المقاومة لا تظهر حقيقة إلا وقت المواجهة المباشرة مع الجيش الصهيوني عبر الخطوط الفاصلة.

الاحتكاك المباشر مع الاحتلال متوفر في الضفة الغربية، لكن الضفة لم تشهد تطويراً لقوى المقاومة، وتمكنت أجهزة الاحتلال الأمنية بالتعاون مع أجهزة السلطة الفلسطينية من قتل المقاومة في النفوس، وملاحقة كل الذين يفكرون بمواجهة الاحتلال. عبر سني اتفاق أوسلو، تراجعت الثقافة الوطنية الفلسطينية في الضفة وطغت الهموم الخاصة على الهم الوطني العام.

تم الإعلان من قِبل حركة فتح أن أيام الغضب آتية، وسيتم إقامة فعاليات ضد صفقة القرن ورفضاً لها. لكن هذا لم يكن جدياً عبر الزمن، وكل أيام الغضب السابقة انتهت مع غروب الشمس، واستمر الاحتلال في تنفيذ سياساته، وفرض أمر واقع على الشعب الفلسطيني.

ومن السذاجة الوطنية أنه كان يتم الإعلان عن إضراب عام في المدن والقرى الفلسطينية احتجاجاً على ممارسات الأمريكان والاحتلال، لكنه كان دائماً إضراباً مؤذياً للفلسطينيين وليس لأعدائه. أراد أصحاب الإضراب أن ينتقموا من أمريكا غير الموجودة في نابلس والخليل، وانتهى الإضراب إلى تعطيل مصالح الناس الفلسطينيين.

وإذا كان للفلسطينيين على المستوى الرسمي أن يكونوا مؤثرين ضد صفقة القرن فأمامهم التالي:

أولا: يجب استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية لأن الشعب الفلسطيني الموحد هو الأقدر على التصدي والتحدي. أي على السلطة الفلسطينية في رام الله أن تتصدى لجذور التمزق الفلسطيني المتمثلة بالاتفاقيات مع الصهاينة ورفض نتائج الانتخابات عام 2006. ومن أجل الوحدة الوطنية يجب إنهاء احتكار القرار السياسي الفلسطيني. ما زالت سلطة رام الله تحتكر القرار، وتحاصر الآخرين الذين لهم حق في المشاركة. الاحتكار مدمر إذا ساد في أي مجتمع.

ثانيا: من المفروض الانسحاب كلياً من اتفاق أوسلو، والعمل على إقامة هيئة وطنية لإدارة شؤون السكان دون أن تكون مرتبطة سياسياً باتفاقيات أو بفصائل من أجل رعاية حُسن سير النشاطات اليومية للناس. ثالثاً: مطلوب إلغاء التنسيق الأمني نهائيّاً وإلى الأبد، وحل الأجهزة الأمنية التي ارتبطت بالاحتلال وأساءت للأمن الوطني الفلسطيني، وتعزيز قوة الشرطة المسؤولة عن الأمن المدني الفلسطيني.

رابعا: لا بدَّ من إقامة شرعية فلسطينية تتمكن من اتخاذ القرار باسم الشعب الفلسطيني. الآن لا يوجد شرعية على الساحة الفلسطينية لا على مستوى منظمة التحرير ولا على مستوى السلطة، وإدارة شؤون الناس بالبلطجة يؤدي إلى الدمار.

خامساً: مطلوب وضع برامج تعليمية وعلمية وتربوية وإعلامية وثقافية نحو إعادة بناء المجتمع الفلسطيني والإنسان الفلسطيني. لحق دمار كبير بالمجتمع الفلسطيني في عهد السلطة الفلسطينية، وتشوهت الثقافة الوطنية، ولا مفر من إعادة ترتيب الأمور لكي تتطور بيئة أخلاقية وتربوية ووطنية متناسبة مع متطلبات التحدي الذي يفرضه الاحتلال والولايات المتحدة.

سادساً: الالتفاف حول المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وحشد كل الطاقات لدعمها وتوسيع نطاقها لتتمكن في الضفة الغربية.

صفقة القرن مرحلة تستهدف كامل الأرض الفلسطينية الانتدابية أي التي خصصها البريطانيون والفرنسيون لنا كشعب فلسطيني. ولكن ماذا عن السكان؟ الصهاينة لا يريدون سكاناً في الأراضي التي يبسطون سيادتهم عليها، وصفقة القرن تقول إن الكيان هو دولة اليهود.

المعنى أن المرحلة القادمة ستركز على تهجير الفلسطينيين لكي تصبح الأرض ممهدة للصهاينة دون مشاكل تأتيهم من السكان الفلسطينيين. ستعمل الولايات المتحدة والكيان وبعض الأنظمة العربية على خنق الفلسطينيين مالياً واقتصادياً وأمنياً لكي تصبح الحياة في الضفة الغربية مستحيلة، فسيبحث الشباب لأنفسهم عن مخارج معيشية خارج وطنهم. أمريكا ستضغط على أنظمة عربية لتسهيل هجرة الفلسطينيين.

وهناك دول تعمل الآن على استقبال الهاربين من ضيق المعيشة مثل السويد والنرويج وكندا وأستراليا. لن يقوم الصهاينة بترحيلنا بحافلات في وضح النهار أمام العالم، لكنهم سيتبعون سياسة الخنق التي تدفع الشباب خارج الوطن. أمريكا ستساعد بقوة نحو تهجير الشباب الفلسطينيين، وستأخذ وقتها في صياغة السياسات التهجيرية.

أخيراً. في مواجهة هذا الواقع لا نتوقع تغييراً سياسياً مهماً على مستوى القيادات الفلسطينية. ستكون هناك قرارات خفيفة لا تتضمن المواجهات المباشرة مع الاحتلال، وستتكرر أسطوانة المقاومة الشعبية التي لم يشرح عباس للشعب الفلسطيني عناصرها ومقوماتها والتي لا تكترث بها إسرائيل.

ولا نتوقع موقفاً صارماً من سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، ولا نتوقع بحثاً جدياً في كيفية تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية. ستصدر بيانات عن السلطة ومواقف إعلامية مليئة بالشعر والتمجيد لا للشعب الفلسطيني، لكن للسلطة.  

لن تطرح السلطة برامج وخطط واستراتيجيات من شأنها تشكيل بيئة وطنية فلسطينية مساندة للمقاومة الفلسطينية. عوّدتنا السلطة على عدم وضع سقف مرتفع لتوقعاتنا، وهذه المرة لن تختلف عما سبق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً