تابعنا
تقترب سنة 2019 من نهايتها. ويكون بذلك قد مضى عشر سنوات على أول سلاح سايبراني استخدمته الولايات المتحدة ضدّ خصومها وعُرف بـStuxnet. تزايد العالَم خلال هذه العشرية ترابطاً، وتطورت أكثر التقنيات العسكرية للاستهداف السايبراني.

وقد أنشأ عديد من الدول جيوشاً إلكترونية خاصة، وباتت الهجمات الإلكترونية واحدة من أهم الاستراتيجيات العسكرية التي تلجأ إليها الدول لضرب مصالح خصومها. ولكن في المقابل يبدو أن قليلاً من الجهد قد بُذل من أجل مكافحة الهجمات السايبرانية، خصوصاً تلك التي باتت تمسّ حياتنا بشكل مباشر.

فالهجمات السايبرانية على البنية الحيوية التحتية ليست ظاهرة جديدة، ولكنها باتت تأخذ مجالاً أوسع بكثير من ذي قبل مهدِّدة حياة ملايين البشرة. لقد تم اكتشاف Stuxnet عام 2010 وهو سلاح سايبراني الأول من نوعه الذي صُنّف على أنه من ضمن أسلحة الدمار الشامل الإلكترونية. وهذا السلاح هو عبارة عن دودة كمبيوتر طوَّرَتها الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل مشترك، ودمرت بها أجهزة الطرد المركزي في منشأة ناتانز الإيرانية لتخصيب اليورانيوم. وقد كانت هذه الدودة أولى البرمجيات الخبيئة التي أثَّرَت مباشرة على البنية التحتية الحيوية.

بعد ذلك وفي عام2917 على سبيل المثال استطاعت البرامج الضارة المسماة NotPetya تصدُّر عناوين الصحف العالَمية بعدما استطاعت أن تغلق خُمس طاقة الشحن البحري حول العالَم، بالإضافة إلى عديد من الشركات والمستشفيات والمصانع مِمَّا تَسبَّب في أضرار قيمتها أكثر من 10 مليارات دولار.

وإذا كان Stuxnet قد صُمّم لضرب البنية التحتية العسكرية، فإن NotPetya قد صُمّم لضرب البنية التحتية المدنية، وبذلك نكون أمام إحدى المعضلات الأهمّفي الفضاء الإلكتروني، ألا وهي غياب الحدّ الواضح بين الاستهداف المدني والاستهداف العسكري. فقد تعرضت الولايات المتحدة في عام 2019، أي بعد عشر سنوات تقريباً من اختراع Stuxnet، لـهجوم إلكتروني راحت ضحيته شبكة الكهرباء وأدَّى إلى تعطيل عملياتها.

لقد كان هناك اعتقاد شائع بأن وراء هذا الهجوم الذي وقع في مايو/أيار 2019 جهات محسوبة على روسيا. لذلك قامت الولايات المتحدة بدورها باختراق عميق لشبكة الكهرباء الروسية في يونيو/حزيران من نفس العام. وفي أكتوبر الماضي أكَّدَت الهند أن البرامج الضارة المرتبطة بـLazarus Group في كوريا الشمالية قد أصابت محطة Kundankulam للطاقة النووية، وهي واحدة من أكبر محطات الطاقة النووية في البلاد. هذا يدلّ على أن الهجمات ليست شرطاً أن تُشَنّ من قبل الجهات الأكثر تقدماً تكنولوجياً مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، بل أيضاً تلك التي تتمتع بمستوى تكنولوجي منخفض مثل كوريا الشمالية التي تبلغ نسبة اتصالها بشبكة الإنترنت العالَمية ما يقرب من 2 بالمئة فقط.

إن ازدياد معدَّل الهجمات السايبرانية يعود إلى مجموعة من الأسباب المترابطة والمتداخلة. بداية هناك الانتشار الواسع لشبكة الإنترنت واعتبارها العصب الجوهري ليس لبنية العالَم الاقتصادية بل والأمنية أيضاً. بشكل متزامن هناك زيادة كبيرة في نسبة التواصل والتشبيك والتكامل بحيث أصبحت جميع الأنظمة متداخلة وبذلك فإن ضرب أحد هذه الأنظمة قد يؤدي إلى عطب أنظمة أخرى مرتبطة معها.

إننا بحق أصبحنا نعيش في عالَم يتكون من جسد واحد، وإذا أردنا استعمال الاستعارة التي أطلقها النبي محمد عليه الصلاة والسلام على الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الأعضاء بالسهر والحمى فإنها تنطبق على أوضاعنا التكنولوجية، لما فيها من ترابط كبير بين جميع الأنظمة بحيث إذا أصاب نظاماً ما العطب فإن باقي الأنظمة المرتبطة به تتأثر.

إن عدد الأجهزة المرتبطة بالإنترنت حتى نهاية عام 2018 بلغ نحو 22 مليار جهاز. هذا يدلل على حجم الترابط الذي بات فيه عالَمنا الذي نعيش فيه اليوم. فمع انتشار الأجهزة المحمولة لم يعد هناك مساحة فارغة من غير اتصال بشبكة الإنترنت. وإذا كان الاتصال سابقاً مقيداً في بعض الأماكن مثل المنشآت العسكرية والحكومية والأكاديمية، فإن الاتصال اليوم في كل مكان وفي كل وقت، وهذا يعني أن حركة المعلومات أصبحت أكبر بأضعاف مضاعفة مِمَّا كان عليه الحال قبل عشر سنوات فقط. فإذا كانت المعلومات الحساسة تبقى محفوظة في الأجهزة البعيدة ضمن نطاق تلك المنشآت، فقد بات اليوم جزء كبير من المعلومات يصاحب الموظفين أينما ارتحلوا، وبذلك باتت عمليات الاستهداف أشمل وأكبر وأسهل.

إن انتشار الرقمنة هذا يصاحبه انتشار الهاكرز الذين باتوا يتصفون بقدرة كبيرة على عمليات الاختراق اكتسبوها من خلال تراكم الخبرات والمعارف. وقد طوّر هؤلاء المتسللون برمجيات خاصة لاستهداف البنية الحيوية مثل برنامج Triton،وهو برنامج ضارّ جديد مصمم خصيصاً لإغلاق وحدات التحكم في السلامة، وهو ما يسبِّب مِن ثَم أضراراً مادية للبنية التحتية الحيوية.

لم يعُد هؤلاء المتسللون هواة كما كانوا في السابق، أو محاربين من أجل حرية الإنترنت الذي كان هدفهم الحفاظ على شبكته بعيداً عن سلطة الدولة، بل أصبحوا مجندين لدى الكثير من الحكومات لشن هجمات محددة ضد خصومهم، كما أصبح كثير منهم مأجورين أو مرتزقة يبحثون عن الجهات التي تدفع أكثر لشن الهجمات الإلكتروني، وهذا أعطى للاختراق بعداً آخر تمثل بالاحتراف والتجنيد.

إننا نعيش في عصر الهجمات السايبرانية أو الإرهاب الرقمي، وهي هجمات ليست مخصصة للأغراض العسكرية وحسب، بل تشمل الأهداف المدنية، وهذا يجعلنا في مرمى هجماتها بشكل مباشر، وهو ما يفرض علينا مسؤولية في تحمُّل جزء من وضع استراتيجية عالَمية من أجل تخفيف تبعاتها الكارثية. ويبدأ ذلك من خلال البحث عن طرق لمحو الأمية الرقمية. يجب أن نكون مواطنين رقميين، ليس على مستوى الاستخدام فقط، فكلنا يستخدم الأجهزة الرقمية تقريباً، ولكن على مستوى المعرفة أيضاً.

كما يجب أن تضطلع المنظمات الدولية والحكومات بدورها لوضع مبادئ وأعراف تتعلق بالمجال الإلكتروني لكي لا يتم عسكرته بشكل يؤثر على الحياة المدنية للمواطنين في أي بلد. إن تحويل الإنترنت لساحة حرب يجب أن يكون أمراً مرفوضاً على المستويات كافة، فهذه الشبكة قد تغلغلت في تفاصيل حياتنا كافة، وإن تخيُّل أن تكون تفاصيل حياتك هي ساحة حرب لهو أمر مرعب.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كُتابها ولا تعبر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً