تابعنا
إن واحدة من أكبر الانتكاسات التي تعرّضت لها الثورة السورية هو اضمحلال الرواية الأصلية لها مع الوقت. لقد بدأت عام 2011 ثورة ضد نظام قمعي استبدادي وذلك للمطالبة بمزيد من الحقوق المدنية، والانتقال إلى نظام ديمقراطي.

ولكن للأسف ومع مرور الوقت استطاع النظام أن يحرفها عن مسارها لتتحول إلى حرب طائفية، وتسويقها للمجتمع الدولي على أنها حرب على الإرهاب. اليوم ربما نحن أمام إعادة ترميم للرواية الأصلية للثورة السورية ولو إلى حدٍ ما، وذلك مع انطلاق العملية العسكرية ضد نظام الأسد في شمال غرب سوريا.

إن العملية التركية في إدلب والمسماة "درع الربيع" ربما لا تعيد الثورة إلى مربعها الأول أو تسقط نظام الأسد، ولكن على الأقل ستُحدث بعض الترميمات على الرواية الأصلية التي تتعلق بنظام يقتل شعبه، وينتهك جميع الحقوق الإنسانية والمدنية لمواطنيه. وفي عالم اليوم المشبع بوسائل الإعلام والرأي العام فإن ظفر الرواية الحقيقية لا يقل أهمية عن الظفر بميدان المعركة.

لقد أخذت الرواية الأصلية للثورة السورية تستعيد عافيتها بعض الشيء مع انطلاق عملية درع الربيع. فقد تركز الحديث في الفضاء التواصلي العام على عنجهية نظام الأسد ومليشياته المساندة له ووحشيتهم في قصف المدنيين وتهجيرهم واقتلاعهم من أراضيهم.

لم يعد الحديث عن مجرد جماعات إرهابية يسعى النظام إلى محاربتها، بل عن نظام يسعى إلى حرمان شعبه من أبسط مقومات الحياة. لذلك كان اللوم مُنصبّاً بشكل كبير على نظام الأسد ومليشياته في إحداث المأساة الحاصلة في منطقة شمال غرب سوريا، والتي عدتها الأمم المتحدة واحدة من أكبر مآسي اللجوء التي شهدتها سوريا طيلة أزمتها التي امتدت على مدار تسع سنوات.

تمثل عملية "درع الربيع" فرصة لأقطاب الثورة السورية أو الجماعات المناهضة للأسد لتوحيد الهدف والبندقية تجاه إعادة الهدف الأول للثورة السورية، ألا وهو إسقاط أو تنحية نظام الأسد، واستعادة المبادرة من أجل وضع حد للأزمة الإنسانية التي تعصف بالبلاد والتي خلفت ما يقرب من مليون قتيل وأكثر من خمسة ملايين لاجئ.

كما أن العملية تمثل للمجتمع الدولي قاطبة فرصة للتدخل من أجل وقف هذه المأساة الإنسانية. لقد فشل المجتمع الدولي وعلى رأسه مجلس الأمن طيلة هذه السنوات من التدخل من أجل وقف حمام الدم في سوريا فاتحاً الباب على مصراعيه لكل من قوات النظام ومليشياته وداعميه، على رأسهم إيران وروسيا، أن يبيدوا شعباً أعزل بأكمله.

إن عملية الجيش التركي في شمال سوريا تثبت لنا أن التذرع بالفيتو الروسي أو الصيني في مجلس الأمن لمنع أي تدخل في سوريا لوقف المأساة الإنسانية ما هو إلا محاولة للتهرب من تحمل المسؤولية. نعم، قد تكون روسيا ومن بعدها الصين قد شلّت عمل مجلس الأمن فيما يخص سوريا طيلة كل هذه السنوات، حيث قامت موسكو باستخدام الفيتو ما يقرب من 12 مرة، ولكن هذا لا يعني أن طرقاً أخرى للتدخل الإنساني غير متوفرة، خصوصاً وأن التدخل الإنساني وفق القانون الدولي يعد أحد المسوغات التي تتيح التدخل العسكري في دولة ذات سيادة لمنع نظام الحكم فيها من ارتكاب مجازر أو إبادة جماعية ضد الشعب أو جماعات منه.

لا شك أن مبدأ التدخل الإنساني أو ما يعرف بمبدأ "مسؤولية الحماية"Responsibility to Protest قد تعرض إلى انتكاسة كبيرة فيما يخص الأزمة السورية، وذلك لاعتبارات كثيرة ربما من أهمها أن الداعمين لمثل هذا المبدأ وهم بالغالب الدول الليبرالية الغربية (أوروبا والولايات المتحدة) باتت تخاف أن يؤدي هذا التدخل إلى صعود الجماعات "الإرهابية"، أما الرافضون لهذا المبدأ مثل روسيا والصين فيرون أن مبدأ التدخل الإنساني يخفي وراءه نوايا تتعلق بتغيير الأنظمة وهو الأمر الذي لا تتسامح فيه كل من موسكو وبكين.

إن الأحداث في إدلب ومحيطها والعملية التركية العسكرية هناك تدفع باتجاه تجاوز هذه المخاوف. وقد أحسنت تركيا أن صدرت للعالم أن أسباب الأزمة لا تكمن بالجماعات الإرهابية الأصولية بل بسياسة نظام يمارس الإرهاب على شعبه ولذلك فالخوف من الإرهاب يجب ألا يكون عائقاً في اتخاذ "جميع التدابير اللازمة" لحماية المدنيين، وهي القضية الثانية التي حاولت تركيا تصديرها في تحركاتها الأخير والتي تعنى بأن المشكلة في الأساس هي مشكلة إنسانية، تتعلق بحياة الملايين من البشر الذين يجري تشريدهم بطريق غير إنسانية البتة.

من هنا يمكن فهم المقاربة الجديدة لتركيا في التعاطي مع أزمة اللاجئين. نعم، ربما يكون صحيحاً أن تركيا لم تعد قادرة من حيث الموارد المادية على تحمل مليون لاجئ سوري آخر، ولكن الأهم من ذلك هو دفع المجتمع الدولي وخصوصاً أوروبا إلى الاستيقاظ من سباتها الإرادي والتحرك باتجاه اجتراح مقاربات لحل قضية اللاجئين من جذورها وليس فقط الاستكانة إلى سياسة اللوم والنكاية بتركيا. إن سياسة تركيا الجديدة في فتح أبوابها للاجئين للخروج لم تأت من فراغ بل من باب دفع المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته؛ فمشكلة اللاجئين لا تعَد مشكلة تركيا وحدها بل مشكلة الجميع.

وإذا كانت أوروبا معنية بأن تحمي حدودها من تدفق اللاجئين، فهذه تركيا تعرض عليها الآن الفرصة من أجل التدخل السريع لتقديم العون، وحل المشكلة من جذورها. إن العملية التركية الحالية فرصة مواتية لأوروبا وللمجتمع الدولي والولايات المتحدة لإرسال رسالة واضحة وصريحة للنظام السوري ومن ورائه كلٌّ من روسيا وإيران أنه لن يكون هناك تسامح مع استهداف المدنيين وتهجيرهم بعد الآن.

إنها فرصة لوقف هذه الحرب التي تشن على الشعب السوري منذ ما يقرب من عقد من الزمان، ولعل هذه الرسالة القوية إذا وصلت تمهد الطريق نحو بداية حقيقية لوضع خارطة طريق لحل سياسي للأزمة، والسماح للاجئين بالعودة الآمنة لقراهم ومدنهم وبلداتهم التي هُجّروا منها. فهل يلتقط المجتمع الدولي الرسالة؟

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً