جنود فرنسيون أثناء اعتقالهم لمواطنين جزائريين إبان حقبة الاستعمار (AFP Archive)
تابعنا

وما زالت لذلك القانون تداعياته في عالم اليوم،نظراً لما يحتويه من تضليل للحقائق وتشويه وتحريف للتاريخ، لإهانته ذاكرة الشعوب وتاريخها. فقد حاولت جهات سياسية فرنسية مختلفة إلغاء القانون لكن دون جدوى، حيث استطاع التيار المحافظ أن يفرض رأيه ويصمد أمام المحاولات المختلفة للمعارضة والاشتراكيين.

قانون 23 فبراير/شباط ينصّ في مادته الأولى على ما يلي: "تُعبّر الأمة عن عرفانها للنساء والرجال الذين شاركوا في المهمة التي أنجزتها فرنسا في مقاطعاتها السابقة بالجزائر، المغرب، تونس والهند الصينية وفي كلّ البلدان التي كانت تحت السيادة الفرنسية، وتعترف (الأمة الفرنسية) بالآلام التي كابدها والتضحيات التي بذلها المرحلون الأعضاء السابقون في التشكيلات الإضافية والمدمجون، المفقودون والضحايا المدنيون والعسكريون خلال الأحداث المتعلقة بمسار استقلال هذه المقاطعات والأقاليم السابقة، وتعرب لهم ولعائلاتهم بصورة علنية عن عرفانها".

القانون رقم 158-2005 لـ23 فبراير/شباط 2005 المتعلّق بعرفان الأمة وبالمساهمة الوطنية لفائدة الفرنسيين المرحلين أهمل وأغفل جملة وتفصيلاً الطرف الآخر، أو بالأحرى الوجه الأسود للاستعمار الفرنسي والممارسات اللاإنسانية والجرائم والنهب والسرقة والتنكيل والتعذيب والتجهيل وطمس الهوية ومحو الشخصية والتاريخ والدين. ففرنسا الرسمية، مع الأسف الشديد، لم تملك الشجاعة الكافية للاعتذار للشعب الجزائري والاعتراف بجرائم الإبادة التي ارتكبتها في مستعمراتها السابقة. بل على العكس من ذلك وجد البرلمان الفرنسي بغرفتيه وتحت نفوذ وسيطرة المحافظين الشجاعة والجرأة الكافيتين للمصادقة وتبنّي قانون يمجّد الدور "الحضاري" و"الإيجابي" للاستعمار الفرنسي في الجزائر وفي باقي المستعمرات الفرنسية عبر العالم.

كما نصّ القانون على إدخال مقررات وبرامج دراسية جديدة تبرز الإيجابيات الحضارية للحقبة الاستعمارية. وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن تقرر السلطات الفرنسية إقامة نصب تذكاري بمقبرة "مارينيان" بجنوب فرنسا تخليداً وتمجيداً لأعضاء سابقين في منظمة الجيش السري التي اغتالت وقتلت عشرات الآلاف من الجزائريين.

يتناقض الخطاب السياسي الفرنسي اليوم مع نفسه ويتبنى النفاق والكيل بمكيالين. فمن جهة تناهض فرنسا الاستعمار وتقف في وجه القطبية الأحادية والهيمنة الأمريكية وتطالب بالاستثناء الثقافي، ومن جهة أخرى تتبنى السياسية الرسمية بمؤسساتها الدستورية تمجيد عشرات السنين من الاستعمار، أقلّ ما يُقال عنها إنها كانت مراحل سوداء ووصمة عار في تاريخ البشرية.

فخلال 132 سنة جرّدت فرنسا الفلاحين الجزائريين من أراضيهم وأرغمتهم على الصعود إلى العيش في الجبال. كما أنها شوّهت الهوية والتاريخ واللغة والدين في الجزائر، حيث إنها جهّلت الشعب الجزائري وحرمته من التعليم ومن العبادة ومن التمدّن والتحضر وأرغمته على الخنوع والانبطاح والعبودية في خدمة المعمّرين "الأقدام السود" والاستعمار بصفة عامة.

فضّلت فرنسا في هذا الوقت المتأخر عودتها إلى ملابسها القديمة في خزائن الزينة الاستعمارية للعودة للماضي الحنين للتباهي بالاستعمار وبجنرالاتها ومعمّريها الذين تفننوا في تعذيب الشعوب والتنكيل بهم وتجويعهم وتجهيلهم.

كيف تُصادق فرنسا على قانون يمجّد الاستعمار والأعمال الوحشية في عصر العولمة ومجتمع المعرفة والمجتمع الرقمي، في عصر الحوار بين الثقافات والشعوب، في عصر التسامح والتفاهم؟ في عصر حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والحوار بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات. قانون العار يتناقض جملة وتفصيلاً مع التطور التاريخي المتميّز بظهور وعي جديد يعمل من أجل القيم والعدالة وحقوق الإنسان ويحارب الهمجية والإرهاب والتطرّف والاستعمار والاستغلال والعبودية والعنصرية. يبدو أنّ بلد "الحرية، العدالة، المساواة" حنّ إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ليعود من النافذة ويعود ويذّكر الإنسانية جمعاء بأعمال يخجل منها أيّ إنسان في العالم ينعم بعقل سليم وبقيم إنسانية.

قانون 23 فبراير/شباط 2005 يُعتبر بكلّ المقاييس قانوناً عنصرياً، يُزّيف ويُحرّف التاريخ والذاكرة الإنسانية، كما يُعتبر تدخلاً سافراً في شؤون المستعمرات السابقة لفرنسا. فمجرّد الحديث عن فضائل الاستعمار يعني إضفاء الطابع الإيجابي على الاستعمار، وأنّ هذا الأخير أمر إيجابي وحضاري ومفيد للشعوب التي استُبعدت وشُرّدت وعُذّبت وجُهّلت وجُرّدت من كلّ مقومات الحياة الكريمة والشريفة.

القانون أثار غضب مستعمرات فرنسا السابقة ووصفه الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة بـ"العمى الذهني"، وجمّد مبادرة إمضاء معاهدة الصداقة مع فرنسا ،كما اضطر رئيس الداخلية الفرنسية السابق نيكولا ساركوزي إلى تأجيل زيارة إلى المقاطعات الفرنسية في الكاريبي بسبب الخوف من التظاهرات ومن المواقف التي قد تُحرجه. في هذه الأجواء المشحونة بالحقد والكراهية وعدم الإحساس بالذنب انتشرت أعمال شغب في ضواحي باريس، لتُعبّر عن فشل فرنسا في إدماج الجيل الثاني والثالث من أبناء رعايا مستعمراتها السابقة والذين يُعتبرون فرنسيين، حيث إنهم ولدوا في فرنسا وتربّوا وترعرعوا فيها ويحملون الوثائق الفرنسية الرسمية.

لكن رغم الوعود والشعارات، ورغم الادعاءات العديدة، فشل المجتمع الفرنسي في إدماج الجاليات المختلفة التي اختارت فرنسا أرضاً لتعيش فيها. ففرنسا، التي تدّعي الحرية والعدالة والأخوّة، غير مستعدة وغير مؤهلة لقبول الآخر حيث فشلت في إدماجه رغم أنها طلبت منه أن يذوب في المجتمع الفرنسي والثقافة الفرنسية من خلال سياسة الإدماج التي فرضتها عليه، فالمتتبع اليوم لما يجري في دولة بحجم فرنسا وتاريخها ووزنها على الساحة الدولية، الدولة التي تتغنى بالديمقراطية وبحقوق الإنسان وبالحرية، يلاحظ العنصرية والإقصاء والتهميش والفشل الذريع في عملية إدماج الآخر.

يعبّر القانون في حقيقة الأمر عن النية الحقيقية لدولة لم تعترف بأخطائها التاريخية ولم تعترف بالجرائم والقتل والبطش وعمليات التجهيل والتجويع التي قامت بها على مدى عشرات السنين. وهذا يعكس أطروحة منظّر الإمبريالية الفرنسي "جول فيري" الذي قسم الشعوب والأمم إلى شعوب متحضرة ومتفوقة خُلقت لتقود شعوباً وأمماً أخرى متخلّفة وجاهلة وغير قادرة على قيادة وحكم نفسها بنفسها.

التداعيات التي تركها القانون والنقاشات الصاخبة التي عرفتها الساحة السياسية والإعلامية الفرنسية وردود الأفعال القوية التي جاءت من المستعمرات السابقة لفرنسا ومن مقاطعاتها وراء البحار أدّت حينذاك بالرئيس جاك شيراك ومن خلال خطاب رأس السنة الموّجه للفرنسيين أن يطالب بإعادة صياغة القانون بشيء من الحكمة واحترام شعور الآخرين.

نخلص إلى القول إنّ قانون العار وأعمال الشغب التي شهدتها فرنسا فور المصادقة على القانون تعكس أزمة ضمير وأزمة في العلاقات بين الشعوب والأمم والديانات والحضارات. كما أن التمسك بهذا القانون يعني التنصل من المسؤولية القانونية والأخلاقية، وعدم الاعتراف بالجرائم المرتكبة للاستعمار الفرنسي ضد الإنسانية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي