تابعنا
يرى خبراء أن تدخل فرنسا في ليبيا لصالح الجنرال الانقلابي خليفة حفتر يؤكد زيف الإدعاءات الفرنسية السابقة بدعم التحول الديمقراطي في البلاد إبان إنطلاق ثورة 17 فبراير ضد العقيد معمّر القذافي.

لعب الرئيس الفرنسي ساركوزي دوراً حاسماً في الإطاحة بالعقيد معمر القذافي، وقد صرّح بتاريخ 13 مايو/أيار 2011 بأنّ "للتدخل الفرنسي عسكرياً في ليبيا ثلاثة مبررات، ويتعلق الأمر بتفادي مجازر ضدّ المدنيين، ودعماً لمسيرة دول الربيع العربي نحو الديمقراطية، ثمّ انسجاماً مع القيم الكونية التي تدافع عنها باريس، فلو لم تتدخل لكان العار سيلاحقها".

ولعل الوثيقتين اللتين نشرهما موقع "mediapart" الإخباري سنة 2012 حول تلقي السيد ساركوزي مبلغ خمسين مليون يورو من القذافي لتمويل حملته الانتخابية لرئاسيات سنة 2007، تجعلنا نتساءل عن الدوافع الحقيقية من التدخل الفرنسي في ليبيا، وتزيد من شكوكنا حول حكاية دعم الديمقراطية والقيم الكونية التي تدافع عنها باريس.

وكذلك كان الأمر بالنسبة لخلفه السيد فرانسوا هولاند، حين قام بزيارة لمصر سنة 2015 تلتها زيارة ثانية سنة 2016، فكان بذلك أول رئيس غربي يُضفي الشرعية الدولية على انقلاب الجنرال السيسي مقابل صفقة أسلحة قُدرت بحوالي خمس مليارات يورو تشمل طائرات حربية وبوارج وصواريخ.. وهو سلوك يفضح مرة أخرى استغلال الدول الأوربية لشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان لابتزاز الأنظمة اقتصادياً ولتبرير تدخلها في شؤون دول العالم الثالث وإبقائها تحت السيطرة.

وعلى نفس النهج يسير اليوم السيد ماكرون حين أعلن عن إجرائه اتصالاً هاتفياً يوم السبت 30 مايو 2020 مع حاكم مصر للتنسيق في الملف الليبي! ومن المؤكد أنّ هذا التنسيق سينصبّ على دعم مساعي الجنرال حفتر لإرساء قواعد نظام ديمقراطي على غرار النموذج المصري الرائد في منطقة الشرق الأوسط.

ولعل هذا ما ذهبت إليه صحيفة نيويورك تايمز التي كشفت يوم 9 يوليو/تموز 2019 عن تورُّط باريس في دعم الجنرال حفتر بصواريخ أمريكية الصُّنع، وفي ذلك خرق واضح لحظر الأسلحة المفروض على ليبيا منذ 2011.

والأخطر منه أنه يتناقض مع قرارات الأمم المتحدة التي تعترف بحكومة طرابلس، بالإضافة إلى كون هذا السلوك المزدوج غير جدير بعضو دائم بمجلس الأمن، ويضرب مصداقية مواقف باريس الدبلوماسية وخطاباتها السياسية أمام المجتمع الدولي.

ويكفي أن ننظر اليوم إلى المعسكر الذي تقف فيه فرنسا إلى جانب كلّ من مصر والإمارات لنتأكد أنّ الهدف من تدخلها في ليبيا أبعد ما يكون عن دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية، وأقرب ما يكون إلى الدول الراعية للانقلابات وحكم العسكر والثورات المضادة واستعمال المرتزقة في حروب قذرة وغير متوازية تعلو فيها المصالح على المبادئ والقيم والقوانين الدولية، وتنبعث منها أعمدة دخان النفط لتغطي على مشاهد الدمار وأشلاء القتلى.

ولا شكّ أنّ كلّ هذه المعطيات تبرر التشكيك، وبأثر رجعي، في خلفية لقاء باريس في يوليو 2017، الذي دعا إليه الرئيس ماكرون مباشرة بعد توليه الرئاسة الفرنسية بشهرين، وهو وقت قصير لا يسمح لرئيس جديد بإنضاج مبادرة حقيقية وقابلة للنجاح، فهل كانت هي الأخرى محاولة لسحب البساط من حكومة طرابلس وإضفاء الشرعية على الجنرال حفتر؟

سؤال يبقى مشروعاً إذا أمعنا النظر في أهمّ فكرة طُرحت في ذلك اللقاء، وأعني بها تشكيل مجلس رئاسي ثلاثي الأضلع يضم فائز السراج وعقيلة صالح وخليفة حفتر.

وهذا يقودنا إلى الدفع إلى أبعد الحدود بالمبدأ الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي ديكارت، وهو "الشك من أجل الوصول إلى اليقين"، وأن نطبقه على ضوء ما سلف على مؤتمر برلين نفسه الذي انعقد في 19 يناير/كانون الثاني 2020.

فإذا نحن طالعنا أبرز نقاط البيان الختامي لمؤتمر برلين فسنجدها تدور حول "احترام حظر الأسلحة وتنفيذه تنفيذاً تامّاً"، و"الامتناع عن كل عمل من شأنه أن يفاقم النزاع (...) بما في ذلك تمويل القدرات العسكرية أو تجنيد مرتزقة"، ثم استئناف المسار السياسي الشامل "الذي ترعاه بعثة الأمم المتحدة".

وكما تلاحظون فإن خرق حظر الأسلحة وتجنيد المرتزقة وخرق وقف إطلاق النار ليس بالأمر الجديد، بل يعود إلى عام 2011، والتصعيد العسكري من قبل حفتر يعود إلى فترات مختلفة منذ 2014 شرق ليبيا، ثمّ 2017 على مدن الساحل الغربي، وأخيراً الحملة العسكرية على طرابلس منذ 4 أبريل/نيسان 2019، فما الذي تغير في الميدان واستلزم عقد مؤتمر برلين؟

المستجد الوحيد على الساحة هو تغيُّر موازين القوى لصالح حكومة الوفاق بعد إعادة سيطرتها على قاعدة الوَطْيَة الجوية يوم 18 مايو/أيار 2020، واستعادة مُدن السّاحل الغربي في أبريل/نيسان الماضي. ويرجع المراقبون هذا التغيير إلى الدعم العسكري الذي قدمته تركيا للحكومة الشرعية في طرابلس استناداً إلى الاتفاق الموقع بين الطرفين في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

فهل تبحث فرنسا ومعها أوروبا عن استقرار الوضع في ليبيا حقّاً؟ أم إنها تحاول تحجيم الدور التركي لإضعاف حكومة طرابلس والسيطرة على حقول النفط والغاز داخل ليبيا وشرق المتوسط؟

للإجابة عن السؤال ينبغي الرجوع إلى تصريح أدلى به نائب وزير خارجية إيطاليا في يناير 2019 متهماً فرنسا بأنها لا تريد استقرار الأوضاع في ليبيا، وهي تهمة ثقيلة على خلفية تجاذبات بين عملاقَي النفط الفرنسي "توتال" والإيطالي "إيني" حول حقول النفط الليبية. وقد أدى هذا التصعيد في فبراير/شباط 2019 إلى استدعاء فرنسا سفيرها في روما للتشاور.

من الواضح إذاً أنّ الخلاف بين هذين البلدين الأوروبيين لا يمكن أن يكون حول الديمقراطية، فهما من الديمقراطيات العريقة، بل هو صراع من أجل المصالح الاقتصادية والاستحواذ على حصص أكبر من حقول النفط.

من هذه الزاوية يمكن أن نفهم جزءاً من التصعيد الفرنسي ضدّ تركيا التي وقّعت مع طرابلس اتفاقاً يسمح بالاستغلال المشترك لحقول الغاز شرق المتوسط، مما أثار معارضة قوية من الدول الأوروبية وروسيا رغم الخلاف الاستراتيجي القائم بين الطرفين، بل وصل الأمر باليونان إلى طرد السفير الليبي والتلويح بإمكانية خوض حرب بسبب هذا الاتفاق.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي