تابعنا
من يتحمل مسؤولية تغييب الإمكانات الهائلة لأكثر من 600 ألف فلسطيني في أمريكا الجنوبية على مدى الـ26 عاماً الماضية، وتحديداً منذ اتفاقات أوسلو 1993؟

تجمعات فلسطينية كبيرة في نحو 14 بلداً، تنبض بحب فلسطين، وتزخر بالإمكانات. منهم وزراء ونواب برلمان وأصحاب نفوذ وأثرياء ورجال تجارة وصناعة وزراعة. يمكن لجهد مخلص، ولو متواضع، أن يشكل علامة فارقة وقفزة نوعية، في دعم قضية فلسطين في أمريكا الجنوبية، وعلى المستوى الدولي. لكن يبدو أن قيادة منظمة التحرير والسلطة لا تعمل، ولا تريد لغيرها أن يعمل!

قصة نجاح وإمكانات متميزة

يتركز اللاجئون الفلسطينيون والجاليات الفلسطينية في أمريكا الجنوبية في تشيلي. وليس ثمة إحصائيات دقيقة متوفرة عنها، غير أن العديد من التقديرات تشير إلى أن هناك ما لا يقل عن 300 ألف من أصول فلسطينية في تشيلي، ونحو 100 ألف في السلفادور، ونحو 80-70 ألفاً في هندوراس ونحو 50 ألفاً في البرازيل، بالإضافة إلى جاليات مهمة في الأرجنتين وبيرو ونيكاراجوا وكولومبيا وجواتيمالا وغيرها. ومعظم الفلسطينيين هناك من أبناء مناطق بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور.

ويتمتع الفلسطينيون خصوصاً في تشيلي بأوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية متقدمة، ولهم تأثير مهم في الحياة العامة. فمثلاً، برز فرانسيسكو شهوان الذي كان أحد السياسيين الكبار في تشيلي، وخوسيه سعيد الذي يملك أكبر شركة عقارات في تشيلي والأرجنتين، وسلفادور سعيد أحد أثرى أثرياء أمريكا الجنوبية وله استثمارات في العقارات والبنوك والطاقة والزراعة.

والفارو سايه (صايغ) رابع أغنى أثرياء تشيلي، ورئيس تكتل كورب الاقتصادي، والبرتو قسيس الذي يسيطر على 40% من اللحوم المصنعة في تشيلي. ومن الفلسطينيين البارزين أنور مخلوف وموريس خميس وغيرهم من الناشطين لفلسطين.

وفي السلفادور، برز شفيق حنظل (1930-2006) السكرتير العام للحزب الشيوعي السلفادوري ومرشحه لانتخابات الرئاسة 2004، وأنتونيو ساكا (السقا) رئيس السلفادور 2004-2009، ونجيب أبو كيلة الرئيس الحالي للسلفادور.

وفي هندوراس برز ميجيل فاكوسه (فقوسه) 1924-2015، من أكبر الأثرياء ومن بين أكبر ثلاثة رجال مؤثرين في الدولة، وفريدي ناصر رئيس مجموعة تيرا التي تسيطر على تجارة النفط في هندوراس.

وفي البرازيل انتخب عمر عزيز حاكماً لولاية الأمازون سنة 2010، وفي جواتيمالا تولى خورخيه لاراش (جورج الأعرج) منصب وزير الخارجية 2004-2006؛ كما تولى عمر شحادة منصب النائب الثاني لرئيس البيرو 2011-2012. (للمزيد يمكن العودة مثلاً إلى مقال الأستاذ خالد بشير في موقع حفريات، بتاريخ 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2018).

وتشير بعض التقديرات إلى وجود نحو 600 مليونير من أصول فلسطينية في البرازيل وتشيلي.

وعندما تسير في شوارع تشيلي تجد رائحة فلسطين وطعمها في أماكن كثيرة، وتجد النادي الفلسطيني أحد أبرز المؤسسات الفلسطينية في أمريكا الجنوبية، وتجد نادي "بالستينو" الرياضي أحد أبرز أندية كرة القدم في تشيلي.

العمل لفلسطين ومسؤولية المنظمة

كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من أوائل المنظمات التي نشطت في أمريكا الجنوبية. وفي 1975 افتتحت منظمة التحرير الفلسطينية أول مكاتبها في البرازيل، ثم في كوبا 1976 ثم في تشيلي 1979.

ورعت المنظمة إنشاء الكونفدرالية الفلسطينية في أمريكا اللاتينية والكاريبي "كوبلاك COPLAC"، وعُقدت ثلاثة مؤتمرات في 1984 و1987 و1993. ثم دخل نشاط المنظمة (كباقي أنشطتها ومؤسساتها) في "موت سريري"، وتزايد تجاهل فلسطينيي الخارج وإهمالهم، كما تصاعدت في المقابل حالة الإحباط والانزعاج من المنظمة وقيادتها.

منذ نحو ثلاثة أعوام تحرك عدد من زعماء الجاليات في أمريكا الجنوبية لإعادة الحيوية إلى النشاط الفلسطيني، بعد أن يئسوا من طول سبات الجهات المسؤولة في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وضعفها ولا مبالاتها. وتمكنوا من عقد اجتماع شاركت فيه 14 جهة تمثل مرجعيات الجاليات، في سانتياغو في تشيلي، في الفترة من 6 إلى 8 يناير/كانون ثاني 2017.

وإثر ذلك، قامت دائرة شؤون المغتربين في منظمة التحرير من سباتها العميق، لتحاول الإمساك بالزمام من جديد. ولأن فلسطينيي أمريكا الجنوبية كانوا منفتحين على "الكل الوطني" وكانوا يرغبون في خدمة وطنهم وشعبهم وقضيتهم، بعيداً عن الفصائلية والحزبية والانقسام؛ فقد تعاونوا مع الجهات المعنية في المنظمة والسلطة. غير أن قيادة السلطة المسكونة بعقدة الهيمنة لم ترغب في مسار ديموقراطي حقيقي شفاف لانتخابات الجاليات، ولا بعقد مؤتمر "الكوبلاك" على أسس تمثيلية صحيحة، فأدارت ظهرها للتفاهمات مع الجهات الناشطة في الجاليات.

وقام الرئيس عباس في 24 أيار/مايو 2017 بإصدار مرسوم يُلحق فيه شؤون المغتربين في المنظمة بوزارة خارجية السلطة. وهو ما شكّل تراجعاً في العمل الفلسطيني لأن السلطة محكومة ببيئة الاحتلال وهيمنته، بينما يفترض أن منظمة التحرير أقدر على تمثيل الفلسطينيين في الداخل والخارج.

وزاد الأمر سوءاً أن القائمين على الكوبلاك (كما تحدث أمينه العام حنا صافيه) فوجئوا باتصال رياض المالكي وزير الخارجية الفلسطيني يطلب منهم الوقوف مع الخط السياسي للمنظمة، والوقوف ضد حماس. هذه الاختلافات أدت إلى تعطيل المؤتمر وتأجيله، إذ قال صافيه إن "المستوى الخطير للتدخل في شؤوننا كان أكثر من أن يحتمل".

ويبدو أن الخوف من الانتخابات الديموقراطية، ومن حماس، ومن بروز معارضين لأوسلو في قيادة الجاليات، دفع السلطة إلى تعيين ممثلي الجاليات تعسفياً وفقاً لقاعدة الولاء. وهو ما دفع القيادات الفاعلة للجاليات إلى التداعي لعقد المؤتمر التأسيسي الأول للجاليات في أمريكا اللاتينية والكاريبي في يونيو/حزيران 2019 في سان سلفادور بالسلفادور؛ إذ أعلنوا عن تأسيس الاتحاد الفلسطيني في أمريكا اللاتينية "أوبال" لتمثيل الجاليات الفلسطينية.

وقدّم هذا الاتحاد خطاباً وطنياً متزناً، متناسباً مع البيئة السياسية هناك، فأكد الوحدة الوطنية، ورفض الانقسام والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً، وشدد على الثوابت الفلسطينية، وطالب بالخروج من اتفاقات أوسلو، وأكد حقّ العودة، ودعم المقاومة على أسس القانون الدولي.

لم ترحب قيادة المنظمة والسلطة بإنشاء "أوبال"، بل قامت بحملة شعواء ضده، واتهمت دائرة شؤون المغتربين المؤتمر بأنه "محاولة انشقاقية". أما وزارة خارجية السلطة فوصفت القائمين على المؤتمر بأنهم حفنة من "المدّعين"، كما استخدمت أوصاف "المندسين" و"العملاء المأجورين".

هذا على الرغم من أن المؤتمر لم يتعرض بالإساءة لأحد، وأكد على شرعية م.ت.ف، وعلى الرغم من أن القائمين عليه يحظون بتمثيل مؤسساتي واسع ولهم دور وطني مشهود، وجاؤوا من11 بلداً. ومن بين الداعين إلى المؤتمر أربعة من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، ثلاثة منهم أصبحوا أعضاء في الهيئة الإدارية الجديدة المنتخبة بشكل ديموقراطي.

كان ينبغي لقيادة المنظمة والسلطة بعد 26 عاماً من الإهمال واللا مبالاة أن تتحلى بحد أدنى من المسؤولية فتفسح المجال على الأقل لأن تقوم الجاليات الفلسطينية بتنظيم نفسها لا أن تستخدم استحواذها على "الشرعية" في احتكار "التعطيل"، ولا أن تستخدم المؤسسات الوطنية في إفراغ العمل الوطني من مضامينه.

ثم ما مدى صحة ما جرى تناقله من أن الميزانية الشهرية لدائرة شؤون المغتربين في المنظمة هي ألفا دولار فقط (وفق ما نُقل عن مصدر كبير في المنظمة)؟ وكيف يجري التعامل مع نحو سبعة ملايين فلسطيني في الخارج من خلالها؟ وعن أي جدية تتحدث قيادة المنظمة في تفعيل العمل الشعبي بميزانيات كهذه إن صحت.

عوائق وتحديات

لا يزال العمل الفلسطيني في أمريكا الجنوبية يواجه عدداً من العقبات، التي من أبرزها:

أولاً: بُعد المسافة، وارتفاع تكاليف التَّنقل وصعوبة السفر إلى أمريكا الجنوبية.

ثانياً: نقص الكفاءات المعنية بالشأن الفلسطيني في أمريكا الجنوبية.

ثالثاً: حاجز اللغة، إذ إن اللغة الأساسية هي اللغة الإسبانية، أو البرتغالية في البرازيل، بينما تكون معظم الكتابات وأدوات التواصل الإعلامي باللغة العربية أو الإنجليزية.

رابعاً: مسار التسوية السلمي وانعكاسه سلباً على التجمعات الفلسطينية في الخارج وما حدث لها من إهمال، بعد أن انزوى وتراجع تواجد منظمة التحرير.

خامساً: حالة الانقسام والتشرذم الفلسطيني، التي ألقت بظلالها السلبية على الفلسطينيين في كل مكان.

وفي المقابل فإن النجاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية التي حققها الفلسطينيون في أمريكا الجنوبية، يمكن أن تتحول إلى نجاحات رائعة لقضية فلسطين وعدالتها على المستوى الدولي، لو أُعطيت ما تستحقه من اهتمام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً