تابعنا
في ذكرى حصار قطر، وفي ظل التقهقر الذي مني به حفتر، بات التساؤل ملحاً حول فهم السياسة التدخلية لمحور ما يعرف بالثورات المضادة وانعكاسها على المنطقة.

تحلّ هذه الأيام الذكرى الثالثة لحصار دولة قطر من قبل أشقائها في دول مجلس التعاون الخليجي وهي السعودية ودولة الإمارات والبحرين، بالإضافة إلى مصر- السيسي التي أصبحت بعد انقلاب يوليو 2013 تابعة لما بات يعرف بمحور الثورات المضادة بزعامة كل من الرياض وأبو ظبي.

جاء حصار قطر حينها ضمن سلسلة من السياسات التي اتخذها هذا المحور من أجل إيقاف عجلة التحول الديمقراطي في المنطقة الذي بدأته ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من البلدان. وقد استطاع تحالف السعودية-الإمارات، مدعوماً بمخزوناتها المالية الضخمة التأثير بشكل دراماتيكي على سير التحول الديمقراطي بالقدر الذي وصل إلى جعل المنطقة ككل تغرق في بحر من الدماء.

لقد اعتبر هذا المحور أن التحول الديمقراطي، الذي اتضح أنه يجلب الإسلام السياسي لسدة الحكم، هو تهديد وجودي لأنظمته السياسية، ولذلك وبالرغم من السياسة المحافظة التي اعتادت على اتباعها هذه الدول، إلا أنها وجدت نفسها في وضع الضرورة للتخلي عنها وانتهاج السياسة التدخلية التي رأت أنها السبيل الوحيد لإيقاف تمدد الثورات إلى أراضيها.

لقد أثبتت الأيام أنه وبعد ثلاث سنوات على حصار قطر، وسبع سنوات على انقلاب مصر أن السياسة التدخلية لهذا المحور تعاني من عجز كبير في الرؤية. لقد كانت سياسة من أجل التخريب لا غير وليس من أجل مراكمة رأس السلطة للوصول إلى وضع القوة المهيمنة أو القوة صاحبة النفوذ واليد الطولى.

لقد أدت هذه السياسة التخريبية إلى إحداث فراغ في القوة استثمرته القوى الدولية والإقليمية على حد سواء لتعزيز نفوذها ومكاسبها في المنطقة. فحصار قطر أضعف إلى حد كبير مجلس التعاون الخليجي، وهي المنظمة الإقليمية الوحيدة التي كانت تتمتع بنوع من التجانس يؤهلها للعب دور بناء في معالجة قضايا المنطقة.

التنافس العربي-العربي ليس بالأمر الجديد، غير أنه وطوال الفترة الممتدة منذ نهاية الاستعمار إلى الثورات العربية كان هناك نوع من توازن القوى داخل البيت العربي منع من تعرضه لحالة من التفكك والتشرذم كما هو عليه الأمر في هذه الأوقات. فبعد انهيار النظم السياسية في العراق بفعل التدخل الخارجي، ومصر وسوريا بعد ثورات الربيع العربي جرّاء عبث العسكر والتدخلات الخارجية، وجدت دول الخليج النفطية نفسها القطب الوحيد القادر على التحرك لتحديد مصائر الدول العربية. ولكن كان هذا التحرك ضد مصلحة العرب من خلال إشاعة كل هذه الفوضى، وهذا الدمار، والسماح بالقوة الخارجية بالتحكم بمصائر الشعوب العربية.

كانت المراهقة السياسية، والعداء غير المبرر للإسلام السياسي كفيلة بحرف البوصلة، وإحداث هشاشة جوهرية في بنى السلطة والمجتمع داخل الدول العربية الأمر الذي صبّ في نهاية المطاف في مصلحة الدول الإقليمية والدولية الرابضة على حدود المنطقة العربية تنتظر الفرصة السانحة للتمدد، وتحقيق المكاسب، فأصبحت روسيا على سبيل المثال الآمر الناهي في سوريا، بينما إيران تسرح وتمرح في العراق ولبنان.

كان التدخل في اليمن كارثياً. من أجل حرمان حركات التغيير الديمقراطية، وحزب الإصلاح من الوصول إلى الحكم، تم تسهيل عملية استيلاء الحوثيين على صنعاء، وعندما رأوا فداحة الخطأ، دخلوا في حرب مدمرة في اليمن راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى المدنيين وأكثر من 5 ملايين طفل يمني أصيبوا بالجوع وغيرهم 6 ملايين حرموا من التعليم الابتدائي.

كل هذا ولم يفض هذا التدخل إلى تحقيق هدفه الممثل بالإطاحة بحكم الحوثيين الذين يعتبرون حلفاء إيران. لقد تباهت قيادات من الحرس الثوري الإيراني على إثر سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء بأنهم باتوا يسيطرون على أربعة عواصم عربية. وتستمر الحرب في اليمن، ويستمر استنزاف التحالف السعودي-الإماراتي بعشرات المليارات من الدولارات دون نتيجة تذكر إلا مزيداً من الخراب والدمار حتى باتت قوى التحالف تبحث لها عن مناطق للنفوذ بعيداً عن الهدف الرئيسي ضاربين بعرض الحائط وحدة أراضي اليمن حيث باتت الإمارات، على سبيل المثال، تدعم المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يطالب باستقلال الجنوب.

كما أدت سياسة دعم الطوائف في سوريا إلى تشتت الثورة وتحولها عن هدفها الأصلي الأمر الذي أدى إلى تفككها، وتحويل البلاد إلى بقعة لتصفية الحسابات الدولية. وكانت النتيجة أن سيطرت كل من روسيا وإيران على القرار السوري. فإيران وبالإضافة إلى دعمها العسكري لنظام الأسد، باشرت بتنفيذ سياسة تغيير ديموغرافية كان أبرز معالمها مدينة حمص من أجل إطالة مدى نفوذها في سوريا إلى ما بعد انتهاء الحرب. أما روسيا، فقد جعلت الشواطئ الشرقية للمتوسط موطئ قدم لأسطولها البحري ولطائراتها المقاتلة، وباتت تتصرف في سوريا بوصفها دولة انتداب، وهو ما لم يحدث أبداً في تاريخها الحديث.

لقد حلمت روسيا وعلى مدار قرون بتحقيق وجود دائم في المياه الدافئة، وشكراً لمحور الثورات المضادة أن وفّر لها هذا بكل بساطة!

أما في ليبيا فحدث ولا حرج، فبعد دعم خليفة حفتر بعشرات المليارات من الدولارات، وإسناده بالآلاف من المرتزقة من الكثير من الجنسيات، وفتح جسر جوي لإمداده بالسلاح، بل وبالمشاركة المباشرة من القوات المصرية أيضاً، كل ذلك من أجل اقتحام العاصمة طرابلس وتنفيذ انقلاب عسكري بحكم الأمر الواقع لإعادة إنتاج دولة الاستبداد التي ثار عليها الليبيون في 17 فبراير/شباط 2011.

فشلت كل جهود هذا المحور في تحقيق الهدف المنشود بالاستيلاء على طرابلس. بل على العكس، فبفضل الدعم التركي للحكومة الليبية، استطاع الجيش الليبي فك الحصار عن طرابلس وتحرير جميع البلدات والمدن التي كانت محتلة ضمن حدودها الإدارية، وطرد جميع قوات حفتر إلى الشرق والجنوب. أصبحت تركيا بذلك هي اللاعب الأبرز في الأزمة الليبية حيث تسعى من خلال دعمها إلى تثبيت الحكومة الشرعية والحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي الليبية.

والأدهى من كل ذلك والأمَر أن هذه السياسة التدخلية العرجاء والتي لم تأت بنتيجة إيجابية تذكر، قد خلقت وهم ضرورة التحالف مع الكيان الصهيوني من أجل التصدي للخطرين المثاليين لهما في المنطقة وهما إيران والإسلام السياسي، وفي بأس من التضحية بما تبقى من فلسطين مقابل الحصول إلى هذا التحالف أخيراً، وليس مباركة هذه الدول لصفقة الضم، وسكوتها المريب عن سياسات الضم لغور الأردن والضفة الغربية إلا دليلاً على ذلك.

أخيراً، لم تحقق السياسات التدخلية لمحور الثورات المضادة مصلحة تذكر لدول هذا المحور، وإنما أحدثت فراغاً كان من نصيب الدول الخارجية للتدخل وتوسيع نفوذها في المنطقة. ولذلك تعد هذه السياسات عبثية بامتياز، وعلى أصحابها إعادة التفكير ملياً بها ومن ثم تغييرها، فالأمن القومي العربي والمصلحة العربية العليا لا تتحققان إلا بتضافر الجهود العربية المشتركة وليس بالاحتراب فيما بينهم وإشاعة الفرقة والشتات.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي. 

TRT عربي