تابعنا
بعد أن بان ظاهرياً أن المؤسسة العسكرية المصرية، متمثلة بعبد الفتاح السيسي وجنرالاته، قد بسطوا سيطرتهم على مفاصل وأركان الدولة المصرية، نزلت المقاطع المصورة للمقاول المصري محمد علي كالصاعقة على النظام المصري وبدا مرتبكا هشّاً إلى أبعد الحدود.

لاقت خطابات محمد علي قبولاً واسعاً بين أطياف مختلفة في النسيج الاجتماعي والسياسي المصري. وتفاءل الجميع، واستبشروا بأن رياح الربيع العربي التي هبّت في ثورة 25 يناير قد عادت من جديد، وبدا أن جماهير الشعب المكبوتة والمقهورة ستتدفق سيولاً بشرية، تصدح بهتافات سقوط النظام وتملأ الشوارع والميادين بهتافات وأهازيج الثورة والحرية كما فعلت في بدايات ثورات الربيع العربي.

لا شك أن ذلك التفاؤل كان واجب الاستدعاء، بل ومبرَّراً ومرحَّباً به بعد سنوات من الصمت المطبق. جاء التفاؤل بداية من منطلق أن الجيش والمؤسسة العسكرية ليست راضية عن أداء السيسي، وصل الأمر إلى أن أكد محمد علي ومن دار في فلكه من الداعين للنزول والمشاركة في الموجة الثورية، أن الجيش يريد حشداً يشبه ما حدث في 30 يونيو 2013 ليطيح برأس النظام، تماماً بنفس سيناريو انقلاب السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي.

ثم جاءت التطورات الميدانية في المملكة العربية السعودية وتعرُّضها لضربات عسكرية موجعة ومحرجة من الحوثيين في اليمن لتزيد درجة التفاؤل، إذ بدا للجميع أن الداعم الأقوى للسيسي في الخليج بات منشغلاً ومرتبكاً بشؤونه الداخلية والتطورات الميدانية.

كما تزامنت هذه الأحداث مع البسالة التي أظهرتها القوات الليبية الشرعية في الدفاع عن العاصمة طرابلس، وصدّها قوات الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، كما شاءت الأقدار ان يأتي ذلك كله متزامناً مع المشهد التونسي الديمقراطي الملهم، حيث عبّر الشعب التونسي عن آرائه في انتخابات حقيقية، ومناظرات سياسية متلفَزة بين مرشحين حقيقيين، تنافسوا في خطب ودّ الشارع والناخب التونسي.

وفوق كل هذه الإرهاصات والمحفزات كان الحراك الشعبي السلمي في الجزائر قد ساعد على تدفق الدماء الثورية في شرايين الشوارع المصرية، وكذا كان أثر الحراك السلمي في السودان الذي أتى أكله بتقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين.

ثم دوليّاً جاءت دعوات نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، لفتح تحقيق بهدف إدانة وعزل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، كأنها إشارات واضحة إلى أن الأجواء تتهيأ للإطاحة بـ"دكتاتور ترمب المفضَّل" في مصر. 

أما من الناحية الاقتصادية، فقد كانت حصيلة إدارة السيسي كارثية على كل المستويات، فإجمالي الدَّين العامّ تضاعف عدة مرات، وسياسة التعويم والاقتراض المفتوح أدخلت البلاد في دوامة الارتهان للصناديق الدولية. أعقب ذلك سياسة رفع الدعم، ورفع القيم الشرائية لمعظم السلع التموينية، ممَّا شكّل عبئاً على كاهل الطبقة الفقيرة والمتوسطة.

ما أضافته فيديوهات محمد علي أيضاً أنها كشفت أن طبقة المستثمرين ورجال الأعمال أنفسهم تَعرَّضوا لخسائر فادحة بفعل الإدارة الارتجالية، التي لا تعتمد دراسات الجدوى والعائد الاستثماري، بل اعتمدت على سياسة الإسناد المباشر بناءً على أهواء ورغبات الدائرة المحيطة بالسيسي من أصدقاء وأقارب.

كل هذه الأمور عزّزَت الشعور العامّ بالإحباط والاستياء من النظام الحاكم وسياساته التنموية الرعناء، فتعمّق الاستياء المجتمعي من أداء الزمرة الحاكمة وازداد ذلك بعد أن بات واضحاً للعيان حجم استفحال المرض المالي والإداري في أعلى هرم السلطة. ففي الوقت الذي يحثّ فيه رأس الدولة مواطنيه على ربط الأحزمة والتقشف، تنعم عائلته وبطانته بحياة البذخ. اتضح للمواطن المصري الذي تبرع لصندوق "تحيا مصر" ولمشاريع تنموية كجامعة زويل، وتفريعة قناة السويس، أن أمواله وجدت طريقها إلى مشاريع السيسي الكمالية، حيث تشييد القصور الفخمة، والفنادق الضخمة، والفيلات الفارهة، بل وحتى واجهات المقابر الشاهقة.

فكان لا بد من تحرير الحناجر الثورية والصدح بالهتافات والصرخات رفضاً للظلم والفساد والعبث بمقدَّرات البلاد، فخرجت الجماهير في الجمعة الأولى في مشهد أعاد مشاعر يناير وبدايات الربيع العربي، ولكن سرعان ما بدأ نجم الثورة بالأفول ووجدت الميادين المصرية معتقلة في سجون السيسي ورجالات أمنه ومدرعاته التي ملأت الشوارع والأزقة وأغلقت المنافذ وأوصدت الأبواب.

ذهبت لحظة النشوة الثورية، وحانت لحظة الحقيقة ومواجهة النفس بالأسئلة الصعبة: هل أضحى الشعب المصري يائساً من قدرته على إسقاط النظام؟ هل باتت مشاهد دماء ميدان رابعة العدوية وإعدامات الشباب في السجون حاضرة في أذهان الجماهير، ناهية لهم عن أي إقدام قد يفضي بهم إلى نفس المصير؟

الثابت في التاريخ أنّ الثورات لا بد من أن تصل إلى مرحلة الفشل واليأس والإرهاق وفقدان الثقة بالقدرة على التغيير والرعب من المستقبل المجهول والتسليم لبطش الفرعون وجنوده، ولكن التاريخ أيضاً يعلّمنا أن الظلم والكبت والفساد والاستبداد يولّد ثورة، ولنا في حراك بغداد ومدن العراق عبرة. لن تقبل الشعوب العربية بشبابها المحروم والمظلوم أن تبقى خارج التاريخ. انتفض شباب وشيبة العراق تعبيراً عن شوق شعبي إلى وطن حقيقي سلبه المتآمرون وضيّعه المترددون المهطعون إلى داعي الخضوع والعيش الذليل في ظلّ حاكم متجبِّر طاغٍ.

ختامًا، يُمكن القول إنّ أجهزة النّظام الفرعوني الشمولي المستبدّ في مصر نجحت في بناء السجون والمعتقلات وترهيب الجماهير بآلاتها العسكرية القمعية وبإعلامها المُضلّل، وجعلت الظلم المقسَّم على الجميع كأنه العدل عينه. ولكن العقلية الفرعونية القمعية تتغافل مسيَّرةً أن تراكم القمع يولّد الغضب في النفوس وأن جدار الصمت انكسر، والحناجر تحررت، فأصوات الجماهير ستُقِضّ مضاجعهم وستدوس قصورهم المشيدة ولن ينفعها حينئذ دعم تويتر الإماراتي ولا دراهم الأمير السعودي ولا دعوات كنيس صهيوني، فالكلمة وقتئذ للشعب، وصدق أبو القاسم الشابي: "إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي