تابعنا
يعيش المرء في ظل الرأسمالية النيوليبرالية المعاصرة في خوف دائم من أن يخونه جسده في أي لحظة ويتعرض لانهيار عضوي يهدد هويته ومظهره وقدرته على كسب عيشه.

ولأننا ندرك أن خيانة الجسد أمر محتمل، بل لا مفر منه في نهاية المطاف، تتحول حياتنا إلى قلق متواصل تتأرجح شدته وفق الدرجة التي تعمل فيها الآلة الرأسمالية لتعزز صورة جسد معين في خيال مهووس لا يتوقع إلا الأسوأ من كل ظرف.

الجسد المتخيل في ظل الرأسمالية المتأخرة هو تقنية يمكن ضبطها وصقلها وتضخيمها من الخارج من خلال ضغوط اجتماعية وسياسية واقتصادية من أجل تعزيز مصالح لا تتوافق غالباً مع مصالح الفرد؛ ترنو دائماً إلى تعزيز الإنتاجية لخدمة رأس المال.

استغلت الرأسمالية النيوليبرالية المعاصرة مشهد الخوف من انتشار فيروس كورونا المستجد، وتحوله إلى وباء عالمي يحصد أرواح أعداد كبيرة من البشر وتقف أمامه التكنولوجيا الحيوية البالغة التطور عاجزة تماماً، للترويج لصورة "الجسد المنتهك" في الخيال الجمعي العالمي.

وحين نتحدث عن "الجسد المنتهك" فنحن لا نتحدث عن مليارات الناس في جميع أنحاء العالم الذين يتعرضون فعلياً للفناء بسبب الفقر والعنف والجوع والأمراض التي يمكن الوقاية منها، ولكننا نتحدث عن جسد خيالي زرعته آلة الخوف المستعرة في أذهان البشر على مساحة الكرة الأرضية.

يجري تعزيز هذا الخوف من خلال سيال مكثف من الصور القادمة من جميع أصقاع المعمورة على شكل قبور جماعية، وجثث محترقة، وأجساد تتساقط في الشوارع، ومدن خاوية على عروشها، وخوف من الآخر حتى لو كان قريباً، ومرضى معزولين في خلايا أشبه بالزنازين الانفرادية، وروبوتات تخدمهم وربما تشرف على علاجهم، ومصابين موتورين يلعقون بلعابهم وإفرازاتهم أماكن التلامس في الحافلات والمنازل، وغربان تحلق في مدن مهجورة، وقوات أمن تعتقل من ينتهك الإجراءات، ومنع تجول، وتعطيل لكل أوجه الحياة، وقوانين تعسفية تنتهك الحريات، وتعتيم إعلامي، واغتيالات ومحاكمات. باختصار، صورة جحيم ذي أبعاد عالمية.

ولا بد لهذا السيناريو كي يحقق هدفه من أن يكون شاملاً وكلياً. لا يوجد أي مخرج في هذه السردية. يجب أن يكون الجميع في خطر. يجب تضمين كل جسد داخل مجال انتشار الفيروس بحيث أن انهيار جسد واحد يعني بالضرورة أن انهيار الأجساد الأخرى بات وشيكاً.

يصبح الخوف في مثل هذه الحالة هو الاستجابة الوحيدة المناسبة لفكرة "الجسد المنتهك". ومتى استشرى الخوف، فإن كل التناقضات، بغض النظر عن شدتها، يمكن أن تتعايش معاً من دون صراع.

الأمر ليس جديداً. إذ وفقاً لميشيل فوكو فإن المسؤولين الحكوميين يقومون دائماً بإعادة إنتاج "الخوف" من أجل فرض السيطرة. يصبح الخوف ذا جدوى من خلال سلسلة من التقنيات الحكومية المتمحورة حول تحقيق الأمن: تأمين الحياة من الموت وتأمين السكان من المخاطر المتحققة والمتوقعة.

يعد تحريض خيال الأفراد عن طريق تعزيز الخوف من فقدان السلامة الجسدية استراتيجية رأسمالية معاصرة. ليست الاستراتيجية الوحيدة بالطبع، ولكنها بكل تأكيد الأثيرة حين ننظر إليها من زاوية حجم السلطة التي تتركز بأيدي الحكومات تحت تأثير الشعور بالخوف.

لا يمكننا أن نأخذ في الحسبان كل الإجراءات والقوانين، وربما الحروب التي ستنشأ في أعقاب حملة تخويف مدروسة بدقة، ولكن يمكننا فحص الآليات والخطابات التي تروجها ماكينة الاستغلال الحكومي لمشهد الخوف الذي نعيشه اليوم والذي يلعب فيه فيروس كورونا دور البطل الملحمي القادم من الصين، البلد الذي يلفه الغموض ويمثل للغرب منذ قرون الآخر المرعب، مما يزيد الطين بلة ويشكل مرتعاً خصباً لغرس الأوهام.

وبعيداً عن الأزمة الحقيقية، يُصنع هذا الخوف من قبل شبكة معقدة من سلطات مؤسسية بحيث تتطلع كل عقدة في الشبكة إلى توسيع سلطتها أو تعزيزها. لا تحتاج كل عقدة بالضرورة إلى أن تتواطأ أو تنسق مع العقد الأخرى. كل ما تحتاج إليه هو تبصُّر الاحتمالات والتصرف وفقًا لذلك، آخذة بعين الاعتبار أن الخوف هو أحد أكثر العلامات قابلية للتبادل وقدرة على الربح في الاقتصاد السياسي الحياتي المعاصر، حتى إن أبطأ البيروقراطيات تتصرف بسرعة في وجوده.

ولأن لجميع الأطراف المعينة مصلحة في مبادلة الواقع بالخيال وتحويل الأكثر استحالة إلى الأكثر احتمالاً، فإن عملية تصنيع الخوف وترويج الأوهام تجري على قدم وساق. وفي المقابل فإن المكافآت الهائلة في الانتظار. فأولاً، يعزز غرس الخوف من "الجسد المنتهك" في الخيال الجمعي فكرة أن السلطة السيادية فوق القانون في كل الأمور، لأن البلاد تحت خطر متعدد الطبقات، مما يشرعن سن حالات الاستثناء والتصرف خارج نطاق القانون وانتهاك حقوق المواطنين.

وثانياً، من المرجح أن يتنازل السكان الخائفون من أن يصبحوا "أجساداً منتهكة" في الواقع عن حقوقهم المدنية مقابل وعد بالأمن والنجاة. وثالثاً،لن يفوت اليمين المتطرف الفرصة لتعميق خطابات الكراهية والعنصرية ضد الآخر، وما قد يترتب على ذلك من إجراءات حاسمة تفاقم معاناة العمال والمهاجرين واللاجئين. والنتيجة هي أننا اليوم أمام أكثر أشكال الرأسمالية قتامة وخطورة، لأنه يتعلق بالسيطرة على السكان وتنقيتهم عرقياً.

المكافآت للجهات الأخرى ليست بهذا القدر، ولكنها لا تزال كبيرة للغاية أيضاً. تزيد القنوات الاخبارية قاعدة مشاهديها ومتابعيها خلال الأزمة مما يحفز المعلنين. وتزيد مراكز المعلومات والأبحاث والجامعات من فرص حصولها على تمويل. هذا فضلاً عن أن فكرة "الجسد المنتهك" ترتبط حتماً بفكرة "الجسد المُعقم".

إذ بمجرد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية عن ضرورة غسل اليدين بالمنظفات وتعقيم الأسطح وارتداء الكمامات كوسيلة للحد من انتشار الفيروس، كان الاستيلاء على المعرفة الجديدة واستغلالها من قبل الانتهازيين الرأسماليين سريعاً. تدفقت المطهرات والمعقمات والكمامات إلى الأسواق سريعاً، وظهرت بوادر الاحتكار ورفع الأسعار وشائعات نفاد الكميات والعجز عن تلبية الطلب المتزايد باستمرار. فرغم أن الفيروس قد أوقف كثيراً من مناحي الحياة، فإن المؤكد أنه لن يوقف تداول رأس المال وتراكمه.

وبعد كل ذلك، فإن الفائز الأكبر هو المؤسسة العسكرية. ذلك أن الخوف بمجرد أن يتركز ويستقر، يرتبط بالحرب. ويمكن للحكومة والمؤسسة العسكرية على حد سواء الادعاء بأن الحل الوحيد للمشكلة هو الحل العسكري، وأن السياسة الصحية يجب أن تخضع للمخاوف والقيم العسكرية، وأن مثل هذه السياسة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للمواطنين من خلالها الحفاظ على سلامتهم.

لسوء الحظ، عندما يتعلق الأمر بالأزمات الصحية بسبب وباء ما، فلا شيء أبعد من الحقيقة. فما حدث في حالات سابقة مثل الجمرة الخبيثة مطلع الألفية، ومن المتوقع أن يحدث بالفعل في حالة كورونا المستجد، هو أن قامت الحكومات في الدول المتقدمة بتخصيص بلايين الدولارات للأبحاث البيولوجية ذات التطبيقات العسكرية التي تستند إلى فرضية أُخرى: احتمالية حرب بيولوجية كاسحة.

وبالتالي ستحصل المؤسسة العسكرية على مخصصات مالية هائلة مقتطعة من قطاعات مدنية أكثر أهمية. لا تهتم الجيوش بالأمراض التي تقتل الملايين بالفعل وتشكل أزمة حقيقية مستمرة، ولكنها تهتم حين يتعلق الأمر بأمراض مثل فيروس إيبولا، وإنفلونزا الطيور والخنازير، والجمرة الخبيثة، والسارس، وأخير كورونا. هذه الأمراض تقتل عملياً عدداً قليلاً من البشر. فضلاً عن أن الاستعدادات المدنية القوية هي ما يخدم المواطنين فعلاً. لقد جاءت انتصارات طبية مهمة من المبادرات المدنية وليس من القطاع العسكري. فالقضاء على مرض السارس مثلاً كان ثمرة برامج تعزيز ومبادرات بحثية مدنية تخدم المصلحة العامة العالمية.

وأخيراً، يمكن فقط لسياسية صحية عالمية متكاملة تأمين أي شخص من التهديدات والأزمات التي تسببت فيها الأمراض المعدية الناشئة. وحتى يأتي ذلك الوقت الذي تتكشف فيه الأوهام والهلوسات الجماعية التي تطارد خيال الناس وتُفهم بوصفها خطابات مصممة فقط لتضليل الجمهور وإخفاء العلاقات التاريخية بينالمعرفة والسلطة والانتاج كما نظر إليها فوكو، فإن الخوف المرضي سيستمر في التحكم بالوعي العام وسيظل نوع السياسات الصحية اللازمة لعالم آمن وحيوي حلماً بعيد المنال.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً