المرشح للانتخابات الرئاسية التونسية قيس سعيّد الذي يتصدر النتائج الأولية غير الرسمية للانتخابات (AA)
تابعنا

لم تدرك إدارة القناة الوطنية التونسية سنة 2011 التي كانت تتخبط في خياراتها بين لونها القديم ولونها الجديد المفروض عليها تحت وطأة الضغط الشعبي، أنها باختيار الخبير الدستوري قيس سعيّد محللاً قانونياً في نشرتها الثامنة، لم تدرك أنها ستصنع آنذاك اسماً سيسطع نجمه في سماء المشهد العامّ التونسي ويصل بعد 8 سنوات إلى الدور الثاني في سباق الرئاسيات بالنسبة الأولى التي تضاهي 19% متفوقاً على أعتى خصومه المنافسين.

فمع أوج الثورة بعد إسقاط بن علي في 14يناير/كانون الثاني 2011، وفي غمرة المطالبات الشعبية بالتزامن مع اعتصامات القصبة1والقصبة2 بإرساء مجلس تأسيسي يعيد صياغة النظام السياسي للبلاد، ظهر على شاشة التلفزة الوطنية رجل اسمه قيس سعيّد، أستاذ القانون الدستوري بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس العاصمة، خبيراً قانونياً ودستورياً في نشرة الثامنة للأنباء، ليحلل الإشكالات القانونية التي تمر بها المرحلة السياسية الحرجة في البلاد في ذلك الوقت، ويقدّم طرحاً أكاديمياً في كل ما يتعلق بالمرحلة الانتقالية وما يجب أن يكون في مضمون الدستور التونسي.

إلا أن المتابع لظهور الرجل في قناة كانت المنبوذ رقم1 في الساحة الإعلامية من قبل الطيف الثائر، وفي نشرة لم تكُن قبل ذلك إلا عرضاً قهرياً للأنشطة النوفمبرية للرئيس المخلوع بن علي، قد لاحظ خطاباً متماهياً مع صوت الشارع، بل ومؤكداً كل توصياته، ووجوب تقنين ما جاءت به الثورة من رؤية هيكلية جديدة للبلاد ودسترتها.

الروبوت أو "روبوكون" أو "روبوتان" كما يحلو لعديد من المتابعين تلقيبه نسبة إلى أسماء في أفلام ومسلسلات كارتون بسبب أسلوب خطابه الذي يشبّهه الناس بالصوت الآلي للروبوتات، لم يسمع له المتابعون خطابا باللغة الدارجة ولا يظهر إلا بلغة عربية فصحى يضرب فيها الأمثال من المعاجم القديمة متندراً بها في كل مرة على مسائل خرق القانون والدستور. ولعل أبرز ما يتعلق بذاكرة الناس في هذا الجانب حديثه عن الحمار الذي أكل الدستور سنة 2013.

مقاطع الرجل انتشرت كالنار في الهشيم في مواقع التواصل الاجتماعي في سنوات الثورة، واكتسب بها احتراماً فائقاً من الجميع، وشهرة جعلته يحتلّ مكانة في خزان الذاكرة الجمعية ويكون رقماً مُخفىً في المعادلة السياسية ليظهر في اللحظة الحاسمة بعد 8 سنوات من الثورة.

قيس سعيد والرهان على قرطاج

لا شك أن نتيجة الانتخابات الأولية غير الرسمية شكّلَت صدمة كبرى لدى كامل الطيف السياسي التونسي، وهي النتيجة التي أقصت كل الوجوه التي تصدرت المشهد منذ الثورة، فكانت رسالة الشعب خارقة لتوقعات النخبة، وقاطعة مع رموز مرحلة منظومة سياسية بشتى عناصرها وتوافقاتها. منظومة وعدت فأخلفت واستخدمت الناس للاستقطاب والجمهرة فقط وتاجرت بأحلام الثورة كما يراها الطيف الأكبر من الناس.

إلا أنه ومع إقصاء كل الأسماء الكبيرة على غرار رئيس الحكومة يوسف الشاهد ورئيس البرلمان بالوكالة عبد الفتاح مورو، ووزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي، لم يتوقع قارئو المشهد التونسي أن اسم قيس سعيد سيكون الأول، ولم تتوقع حتى عمليات استطلاع الرأي ذلك قبل أيام من الانتخابات، وهي التي أعطت الصدارة للقروي ومورو والشاهد والزبيدي، مما يجعلنا بعد صدور النتائج أمام ظاهرة حقيقية تحتاج إلى دراسات معمَّقة في بُعدَيها الشخصي والشعبي.

فقيس سعيّد، الرجل الذي يجهل الكل خلفيته السياسية والآيديولوجية، لم ينتمِ إلى أي تيار سياسي بشكل مُعلَن، ولم يتجلَّ في خطابه ما يحيل إلى أنه مصنَّف ضمن عائلة سياسية، ولم يُبدِ في مواقفه طيلة السنوات الماضية عداء أو خصومة لأي طرف سياسي أو فكري، بل كان همه الوحيد القانون والدستور، بخاصة "المبادئ والقيم العامة"، وهنا مكمن القوة الاستقطابية الخفية للرجل الذي رغم طول صمته بدا متمكناً في المناظرة التلفزية في كامل إجاباته، مركزاً بخاصة على الأخلاقيات العامة التي يجب أن تكون بين الدولة والمجتمع. ولعلّ ما يلخّص خطابه في الحصة الثالثة من المناظرات قوله "ينبغي الانتقال من دولة القانون إلى مجتمع القانون حيث يستبطن الفرد احترام القانون ولا يكون مُجبَراً على طاعته".

لفكّ شيفرة سعيّد يجب أن نعود أكثر إلى خطاباته وسلوكياته وأسلوبه التواصلي مع الناس، ويجب أن نطرح سؤالاً جوهريّاً: كيف لحملة انتخابية لم تأخذ أي مليم أن تقهر منظومات وماكينات حزبية بمواردها المالية الضخمة؟

وفي قلب هذا السؤال قد نجد شيئاً من الإجابة، فسعيّد خدمه صمته أكثر مما خدمه كلامه ليُعتبر الوحيد بين الـ26 مترشحاً الذي لم يتحزب، ولم يتقلب من لون إلى آخر، والوحيد الذي أخذ مسافة من كل التيارات والأحزاب التي لم تعُد محل ثقة الناس.

أما عن حملته فقد رفض الرجل منذ اليوم الأول لترشحه أن يأخذ مليماً واحداً من الهبة التي تمنحها الدولة لتمويل الحملات الانتخابية، معتبراً أن أموال الدولة الأولى بها هم الفقراء لا الحملات الانتخابية. وبهذه المقاربة لخطاب عمر بن الخطاب "لا تكسوا الكعبة قبل أن تَشبع بطون الفقراء" نجح سعيّد في استقطاب جمهور عريض من المحافظين الرافضين لمظهر وسلوك الرخاء.

وهذا ما بدا جليّاً في حملته الفقيرة التي كان قوامها تطوُّعاً مالياً ولوجيستياً من طلبته، وأنصاره سيما من الشباب الجامعي. حملة لم تجُب كامل أنحاء البلاد ولكنها لاقت ترحاباً احتفاليّاً عفويّاً ضخماً في عدة مدن. وهناك بدأ يتجلى اسم "قيس سعيّد".

سعيّد.. يساري أم إسلامي؟

مع صدور النتائج بدأت تنهال على الرجل تنسيبات وتصنيفات بين تيار يصنّف الرجل على أنه يساري وتيار يعتبره إسلامياً. بل وصل الأمر بالبعض إلى حد وصفه بأنه سلفي كما صرحت بشرى بالحاج حميدة مستشارة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في إحدى القنوات الأجنبية.

تدوينات عديدة تحدثت عن مدير حملة الرجل السيد رضا شهاب المكي، وهو أحد مؤسّسي حزب الوطنيين الديمقراطيين، الحزب اليساري الراديكالي الذي كان يقوده الشهيد شكري بالعيد، وتدوينات أخرى تحدثت عن علاقة سعيّد بحزب التحرير الإسلامي بحكم علاقته بزعيمه السابق رضا بالحاج، وتدوينات أخرى تعتبره قريباً من التيار السلفي نسبة إلى مواقفه السابقة التي نصر فيها مبدأ التنصيص على الشريعة في الدستور، فضلاً عن تجريمه المثلية الجنسية.

كلها آراء تصبّ في أن هذا الرجل هو خلطة غريبة بين هذا وذاك، بل هو حالة يرى فيها كثيرون حلّاً لإزالة التوتر الذي أعاق المسار الديمقراطي طوال السنوات المنقضية بسبب الصراع التقليدي بين اليسار والإسلاميين، ولعل هذا ما أثبتته أرقام شركة الاستطلاعات سيغما كونساي التي أفادت بأن 25% ممن صوتوا لسعيّد صوتوا سنة 2014 لنداء تونس، و15% صوتوا للنهضة، وأكثر من 30% من الناخبين الجدد الذين لم يصوتوا سابقاً.

يمرّ سعيّد بحظوظ وافرة إلى الدور الثاني، ويبدو الأقرب لحسم الصراع على كرسي قرطاج مع وجود كثير من الأطراف الخاسرة في السباق التي أعلنت دعمها له. إلا أن مروره إذا حصل سيطرح عدة تساؤلات عن علاقته بالبرلمان القادم، وهو الذي لا يملك قوائم مترشحة إلى التشريعية، فهل سيكون سدّاً أمام النخبة السياسية القادمة، أم أننا أمام حالة سياسية جديدة فريدة من نوعها؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً