تابعنا
يرى الكثير من الخبراء أن فيروس كورونا لا يتوقف على كونه جائحة صحية وحسب، بل تمدت آثارة إلى الكثير من الجوانب الحياة وربما يسهم في إحداث تغييرات جوهرية على النظام الدولي.

ظهور فيروس كورونا (كوفيد-19) في مدينة ووهان الصينية لا تزال أسبابه الحقيقية مجهولة، ولكنّ غير المجهول في الأمر، أن السلطات الصينية، وفق تقارير غربية، قد تكتّمت على تفشي هذا الفيروس ولم تعلن عنه سوى قبل أيام قليلة من رأس السنة القمرية الصينية الذي يصادف تاريخ 23 يناير/كانون الثاني 2020.

إن صمت الدولة الصينية عن ظهور جائحة فيروس كورونا لفترة سمحت بانتشار هذا الوباء عالمياً، لم تكن الغاية منه الصمت بحد ذاته، من أجل محاولة السيطرة على الفيروس وحسب، بل يتعلق الأمر بالذهنية الشمولية للقيادة السياسية في البلاد.

إن انتشار هذا الوباء بصورة سريعة في أرجاء العالم، وتحديداً في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط، يكشف عن أبعد من كون الأمر مجرد جائحة. فمع هذا الانتشار السريع للوباء، وأخذ الاحتياطات القصوى لمواجهته، يكون الأمر قد وصل إلى تباطؤ عمل كثير من قطاعات الاقتصاد العالمية، لا بل توقف قسم منها عن العمل.

إن صمت الصين عن انتشار الوباء في مرحلته الأولى، يمكن اعتباره أمراً سياسياً على علاقة بأمور اقتصادية، أكثر من اعتباره محاولة سيطرة على وباء، ولهذا لم تستطع القيادة الصينية، أن تتبنى هذه السياسة علناً، لأنها بذلك ستواجه حملة عزلة دولية كبرى.

وبالعودة إلى الوراء زمنياً، أي إلى عام 2018، ففي هذا العام بدأت حرب تجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الصين. وكانت الصين قبل ذلك بعام واحد قد عدّلت حساب قيمة اقتصادها إلى ما يربو على مبلغ (13.08) تريليون دولار أمريكي.

ولكن النمو الاقتصادي الصيني انخفض إلى 6.8% في عام 2017، في وقت قال فيه صندوق النقد الدولي إنه يتوقع انخفاضاً في نمو اقتصاد الصين إلى حدود 6.2% عام 2019.

إن جائحة كورونا لا تجري في عالم سياسي اقتصادي حيادي، بل في ظل نظام عالمي ظهرت بوادره الأولى مع تصريحات جورج بوش الأب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث قال آنذاك "إن النظام الاقتصادي الحر انتصر وصار العالم قرية واحدة".

النظام الاقتصادي الذي تتزعمه الولايات المتحدة عالمياً، صار عبئاً على شعوب العالم، وعلى الدول التي تبحث عن مسارات نمو اقتصادية مستقلة، تخدم شعوبها. فليس من الممكن أن تحتفظ الولايات المتحدة بقدرة السيطرة منفردة على الاقتصاد والسياسة الدوليين، وهذا تمّ الحديث عنه عبر دراسات ومقالات ذات قيمة من قبل كبار رجال الفكر الاقتصادي والسياسي الدولي.

النظام الاقتصادي الذي يطلق عليه تسمية (نيوليبرالية)، هو تعبير عن أقصى درجات الجشع الرأسمالي، وهو مرتبط بإيديولوجية أكثر يمينية، وكرهاً لتجارب شعوب أخرى تريد أن تطور قدراتها الاقتصادية وغير الاقتصادية.

ولعلّ هذه الجائحة الفيروسية هي ما كشف هشاشة النظام العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، والذي تتصرف من خلاله دولة الصين وفق ذات الأدوات والوسائل والأهداف.

إذاً، يمكن اعتبار إهمال الدولة الصينية لانتشار الفيروس خارج ووهان الصينية مقصوداً في بعض جوانبه. فعلى الأقل، وهذا أمر يتعلق بحياة البشر لديهم، كان بإمكانهم الإعلان عن تفشي الفيروس بين مواطنيهم، وكان بالإمكان منع انتشاره، عبر إغلاق منافذهم الحدودية الخارجية، ومنع انتقال الصينيين ضمن دائرة خطر الفيروس.

لكن القيادة الصينية، التي تباهت منذ أيام بانعدام حدوث إصابات جديدة في البلاد، كانت تلجأ كأي نظام حكمٍ شمولي استبدادي إلى التعمية على حقائق الأمور في الواقع. هذه التعمية عبر إطلاق الاحتفالات لا تعطي مصداقية بانتهاء الوضع الكارثي لتفشي الوباء في بلادهم.

الصينيون يتبعون قاعدة تقول (ما دمنا سنغرق في المركب الغارق فليغرق الجميع). وهم بهذا يريدون منع اختلال نسب النمو الاقتصادية بينهم وبين الدول المنافسة لهم، والمتناقضة معهم إيديولوجياً، ولهذا ربما صمتوا عن انتشار فيروس كورونا عالمياً من خلال السماح (رغم تفشي الوباء) بانتشاره عبر حركة النقل الدولية للمسافرين والبضائع، وهو ما يفسّر سرعة الانتشار في عالمٍ، قال عنه ممثل الرأسمالية النيوليبرالية جورج بوش الأب إنه "قرية صغيرة".

الصينيون لم يكونوا ليقبلوا بهذا الاختلال في الميزان الاقتصادي لمصلحة الغرب، ولهذا سيكون انتشار فيروس كورونا عالمياً، وفي أوربا وأمريكا بالتحديد، مع تعظيم خطره إعلامياً، سبباً مباشراً لأمرين اثنين، هما وقف نمو اقتصاد كل الدول التي تصنفها الصين بأنها دول منافسة ومعادية اقتصادياً لها، وثانيهما، أن مرحلة سيادة القطب الأمريكي الأوحد اقتصادياً وسياسياً قد وصلت إلى نهايتها لمصلحة عالم متعدد الأقطاب.

في هذا السياق، يمكن القول إن صيغة العالم الرأسمالي المسيطرة وفق النموذج الأمريكي المنتصر على الاتحاد السوفياتي عام 1991 هي صيغة تُحتضرُ الآن. ومن الواضح أن الصين ستتقدم ركب دول أخرى تفكك عالم الرأسمالية الأمريكية المهيمنة عالمياً.

هذه الرؤية تعني انفراط نظام العلاقات الاقتصادية والسياسية، التي كانت سائدة إلى لحظة تفشي كورونا، هذا الانفراط يأتي لمصلحة بدء ظهور عالم متعدد الأقطاب بشكل فعلي، ستندفع بموجبه دول عديدة إلى الأمام اقتصادياً وسياسياً، وتضمحل فيه دول أخرى، كانت تلعب دور ذيل النظام الاقتصادي النيوليبرالي بقيادة أمريكا.

وفق هذه الرؤية يمكن فهم وظائف جائحة كورونا المعظّمة إعلامياً، فهذه الجائحة لم تجد لها وقعاً ميدانياً مماثلاً في دولة كالهند مثلاً، وهي دولة يبلغ عدد سكانها أكثر من مليار نسمة. ومع ذلك ينبغي فهم أن عالم ما بعد جائحة كورونا هو غير عالم ما قبلها، وهذا سينعكس على دول القارة الأوروبية العجوز.

أوروبا التي تتغنى بنظام ليبرالي ديمقراطي مغلق على قياسها، ستضطر إلى إعادة إنتاج نظامها الاقتصادي والسياسي وفق صيغة مختلفة عن مفهوم الاتحاد الأوروبي الذي يبدو أن صيغته لم تعد قادرة على التجديد والإبداع لشعوبه. وهو ما يفتح الباب أمام انفراط عقد هذا الاتحاد الذي بدأت بريطانيا خطوته الأولى.

الانفراط الأوروبي سيكون أقرب إلى تصدّر قوى قومية يمينية المشهد السياسي لمرحلة ما بعد كورونا، وبالتالي سيكون هناك نظام عالمي جديد هو عالم سياسي اقتصادي ما بعد كورونا العظمى.

أما بالنسبة للدول الضعيفة اقتصادياً وسياسياً فالأرجح أنها ستجد نفسها خارج حسابات التوازن العالمي الجديد.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً