ناقلة نفط تفرغ النفط الخام في محطة تشوشان، مقاطعة تشجيانغ، الصين 4 يوليو 2018. (Reuters)
تابعنا

كورونا بدأ لعبته بصورة جائحة عالمية، وباعتبار أنه ينتقل من خلال رذاذ بشري، فإن اجتماع الناس في الأماكن العامة وغيرها يسمح بتوسع آثار فعل هذا الفيروس، مما يهدد بإصابة الملايين، بل ربما عشرات الملايين من الأشخاص، نتيجة وجودهم المشترك في العمل والمدرسة والأسواق وغيرها من أماكن التجمع.

خطر كورونا عطّل النشاط الاقتصادي العالمي بنسبة كبيرة، وترتّب على ذلك توقف عمل عددٍ هائل من المصانع وشركات النقل وغيرها، التي تعمل على الطاقة النفطية، مما جعل كمية النفط المطروحة في الأسواق تشكل فائضاً كبيراً لا مجال لتخزينه أو استعماله، وهو أمر دفع بقطاعات التسويق إلى البيع بصورة خاسرة، لعدم القدرة على استمرار الاحتفاظ بهذه الكميات.

هذه الحالة المزرية جعلت سعر برميل نفط برنت يهبط إلى ما دون 17 دولاراً، وسعر برميل النفط الأمريكي يهبط إلى السالب.

هبوط أسعار البرميل في السوق العالمية دفع منظمة أوبك إلى الاجتماع مع منتجي النفط من خارج المنظمة وتحديداً روسيا. لكن الاجتماع الذي كان مخصصاً لمحاولة الاتفاق، على خفض الإنتاج اليومي، بمعدل 1.5 مليون برميل يومياً، فشل في التوصل إلى توافق، وترتب على الفشل أن يصرّح وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك بالقول: "بدايةً من الأول من إبريل/نيسان، بإمكان الجميع الإنتاج بأي كمية تحلو له".

وفق الصورة السابقة وما أحدثه كورونا على وضع الاقتصاد العالمي وما سيستتبعه من خسائر كبرى قد تصل إلى بضعة تريليونات من الدولارات إلى حين وقف الجائحة والسيطرة عليها، فإن هذه الخسائر ليست مؤقتة، بل ستضرب بعمق بنية اقتصادات الدول المتقدمة بالدرجة الأولى، وهذا سيرتب نتائج لم تكن متوقعة قبل حدوث الجائحة.

من هذه النتائج تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وانعكاس ذلك على مستوى فرص العمل، وتقديم الخدمات، وربما على الأوضاع السياسية في كل بلد يتعرض لمثل هذه الأزمة الخطيرة، وهو أمر يفترض سياسات اقتصادية وخدمية جديدة، تتناسب مع ما سيؤول إليه الوضع الاقتصادي في كل بلد من جهة، وفي الاقتصاد العالمي من جهة أخرى.

هذه الحالة ستشمل المجال الاقتصادي الأكثر نشاطاً دولياً (مجموعة العشرين)، ولكن بنسب تضرُّرٍ مختلفة، وربما استفادة بعض أعضائها من هذه الأزمة الدولية.

ويتوقع مراقبون أن الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الصين ومعهما مجموعة دول آسيا الأكثر تطوراً اقتصادياً وروسيا وأوروبا الغربية، سيكونون الدول الأكثر عرضةً للاهتزاز الاقتصادي، إضافة إلى دول منتجة للنفط بكميات غير كبيرة.

اهتزاز الوضع الاقتصادي سيسبب تراجعات في طبيعة العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية واتجاهاتها، هذا الاهتزاز سيلعب دوراً جديداً في مواقع قوى التأثير الاقتصادي والسياسي الدولي. مما سيفتح الباب أمام حدوث تغيرات بنيوية عميقة في النسيج السياسي الدولي المبني على مقولة النظام العالمي الجديد، هذه المقولة التي بشّر بها جورج بوش الأب بدأت تتفكك نتيجة جائحة كوفيد-19.

من أول احتمالات تراجع الموقع الاقتصادي ستكون أوروبا، التي ستدفع ثمن هذه الجائحة تفككاً سياسياً نتيجة تراجع اقتصادات الدول الأوروبية الأكثر تطوراً وتقدماً، هذا الرأي ليس تخيلاً وليس رغبة، ولكنه مبني على رؤية تقول بأن كورونا وتعطيله الإنتاج الاقتصادي في أوروبا المتقدمة سيضعف قدرات دول مثل ألمانيا وفرنسا، سيما أن بريطانيا خرجت من ثوب الاتحاد الأوروبي، فمع تراجع قدرات ألمانيا وفرنسا اقتصادياً، وكذلك تراجع اقتصادات الدول الأوربية، ستضعف أواصر الاتحاد الأوروبي التي بنيت ركائزها على ضخ ألمانيا لرؤوس الأموال والمساعدات إلى دول أوروبا الأقل تقدماً والأكثر حاجة إلى المساعدات مثل إسبانيا واليونان على سبيل المثال.

هذا الأمر سينعكس على روسيا وسياساتها الداخلية والخارجية، وهو يعني تراجع الدور الروسي بصورته السياسية الحالية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصين.

لكنّ خبراء اقتصاد أمريكيين يعتقدون أن الخاسر الأكبر من جائحة كورونا ومن حرب أسعار النفط سيكون الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه الدولة العظمى التي يزيد حجم ناتجها المحلي عن 20 تريليون دولار أمريكي، بدأت تدخل نفق الانكماش الاقتصادي، وتهاوي عددٍ كبير من شركاتها نحو حافة الانهيار والإفلاس.

الصين التي كانت تسجّل معدلات نمو اقتصادي كبيرة، عصفت بها هي الأخرى جائحة كورونا، مما اضطر كثيراً من المستثمرين إلى الخروج باستثماراتهم منها والتوجه بها إلى أماكن أكثر أمناً حيال الجائحة، وبالوقت نفسه تكون هذه الأماكن (الدول) ذات بنية اقتصادية متطورة تستطيع توفير متطلبات إنتاج هذا الاستثمار.

تركيا تأتي وفق مراقبين بين صف الدول الأكثر قدرة علمية وطبية وسياسية على التصدي لجائحة كورونا، وبالتالي فإن أثر هذه الجائحة فيها سيكون في درجة منخفضة من التضرر الاقتصادي، ولهذا استقبلت تركيا في الآونة الأخيرة استثمارات لصناعات عديدة من بينها صناعة الألبسة والآلات الصغيرة أو المتوسطة.

إيران ستكون من أكثر الدول تضرراً اقتصادياً وسياسياً بين مجموعة دول الشرق الأوسط، فستتعرض لخسائر كبرى لسببين رئيسيين هما: انخفاض أسعار النفط، وهي دولة أغلب عائداتها تأتي من تصدير النفط الخام، هذا الانخفاض الحاد بالعائدات سيربك قوة سياسات هذه الدولة إقليمياً وداخلياً.

الضرر الإقليمي الإيراني سيتمثل بضعف قدرات تمويلها لمشروعها بالهيمنة الإقليمية، الذي كان يقوم على مبدأ الاعتماد على تمويل أذرعها في المنطقة، مثل حزب الله اللبناني، أو دعمها لمليشيات شيعية في بلدان أخرى، وكذلك سينعكس على برامج تسلُّحها وبرنامجها النووي، مع ازدياد الضغوط الاقتصادية عليها، مما ينبئ بإمكانية تفجُّر الأوضاع شعبياً، على أرضية سوء الأحوال المعيشية وازدياد نسبة الفقر في البلاد.

وفق كل ما ذكرناه من تغيرات محتملة على المستويين الاقتصادي والسياسي العالمي، سنجد أنفسنا أمام توازنات دولية جديدة، وبالتالي أمام سياسات دولية مختلفة. وهذا يعني أحد اتجاهين، أو كليهما معاً، الاتجاه الأول سيعيد مربعات التجمعات السياسية والاقتصادية الدولية إلى مرتبة إعادة بناء من جديد وفق القدرات المتاحة بعد كورونا، ونقصد بالتجمعات مثل الاتحاد الأوروبي، أو رابطة آسيان، أو غيرهما.

وقد ينعكس هذا الأمر حتى على بنية الأمم المتحدة وأنظمة عملها بسبب تغييرات في موازين القوى الاقتصادية والسياسية. ولكن هذه التأثيرات لن تظهر بمدى قصير زمنياً بل ربما تحتاج إلى زمن متوسط بحدود سبع سنوات إلى عشر بعد كورونا.

نحن أمام نظام عالمي جديد تصنعه كورونا لا بيوتات المال العالمية أو غطرسة التفوق العسكري؛ إنها الطبيعة التي خلقها الله ويجهل قوانينها بنو البشر الطامعون.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً