تابعنا
تظل الطبقة الوسطى بالوطن العربي على درب الانمحاء والممانعة، حتى في دول الوفرة النفطية، تقاوم الانقراض وتتعرض باستمرار للتآكل و"التنكيل الرمزي"، فصانع القرار يتمثلها كعدو طبقي أو كمنافس احتياطي يجب التخلص منه.

لا يتردد المتخصصون في تسويق خطاب الارتياح في توكيد أن هذه الطبقة تتسع أكثر فأكثر، بما يقود نحو "وَسْطَنَةِ" المجتمع وتكافؤ الحظوظ في مختلف أبنيته، تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى المغرب "الرسمي" الذي أَعْلَنَ أن أزيد من 54 بالمئة من المغاربة ينتمون إلى الطبقة الوسطى، وهو ما تكرر أيضا في القُطر التونسي الذي أُعْلِنَ فيه أن الطبقة الوسطى تكاد تنسحب، من حيث المفهوم، على مجموع التونسيين.

علماً أن المقاربات الأكثر تحرراً من ثقل "الرسمي" ورهانات التلميع السياسي، تؤكّد تصريحاً لا تلميحاً، أن هذا الطبقة تعاني من التآكل، وأنها بالكاد تحارب الانقراض، بسبب سوء الأحوال السوسيو-اقتصادية وتداعيات الأزمة المالية العالمية، فضلاً عن سياقات التدبير المعطوب، وهو تخريج يكاد ينسحب حتى على بلدان الوفرة النفطية.

و لعل هذا ما يدعو إلى طرح السؤال مجدداً حول التشكيلات الاجتماعية العربية المفترضة، فهل ما زال الحديث ممكنا عن الطبقة الوسطى؟ أم إن التقسيم الجديد لقواعد اللعب أو الصراع الاجتماعي يفترض وجود غريمين غير متكافئين، هما "الذين هم فوق" من آل النوادي المخملية، و"الذين هم تحت" من القابعين تحت عتبة الفقر أو المهددين بالفقر؟

في أعقاب النقاشات الملتهبة حول تشكيلات المجتمع الأوروبي تحديداً، ظهر مفهوم الطبقة الوسطى للتعبير عن تلك الفئات الاجتماعية التي تقع من الناحية التراتبية في"منزلة بين المنزلتين"، أي بين الطبقة العليا والأخرى الدنيا.

فالمجتمع وفقاً لهذا الفهم يتوزع على ثلاث طبقات أساسية، هي الطبقة البرجوازية المتحكمة في ممكنات صناعة القرار و وسائل الإنتاج والإكراه، وطبقة الفلاحين والعمال والحرفيين الذين يعيشون في واقع من الهشاشة الاجتماعية، ثم الطبقة الوسطى التي يتوافر لها بعض أسباب العيش الكريم وتحوز درجات محترمة من التعليم، وتؤدِّي أدواراً طليعية، تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى الأطباء والمعلمين والتجار وغيرهم.

وعليه يمكن القول إن الطبقة العليا هي التي تتوافر على الضروريات والكماليات، والطبقة الوسطى تحوز الضروريات، فيما تظلّ الطبقة الدنيا في صراع مستمرّ من أجل تأمين أبسط ضروريات العيش، التي لا تتوافر لها في غالب الأحايين.

يقول الفرنسيون عن الطبقة الوسطى إنها تضمّ "الغني بدرجة لا يمكن أن يكون معها فقيراً، والفقير بدرجة لا يمكن أن يكون معها غنيّاً"، فهي تؤشر على جماعات من الأفراد تتوافر لهم ظروف سوسيو-اقتصادية مريحة نسبيّاً، ويحوزون درجات محترمة من التعليم، ويساهمون بمقدار ما، في الحركية الثقافية والسياسية، كما أنهم متحررون، نفسيّاً، بشكل ما، من "قلق الغد" و"قلق الاحتياج".

ولعل هذه المعطيات المتعددة هي التي تمنح هذه الطبقة المقدرة على توسيع دوائر النقاش السياسي والإسهام في صناعة التغيير وبناء الممكن.

كثيراً ما توصف الطبقة الوسطى بكونها "صمام أمان" المجتمع، وذلك بالنظر إلى دورها الرئيسي في حفظ التوازن المجتمعي، وإسهامها المباشر في النقاش الحواري التعدُّدي، بسب تموقعها في وضع "بَيْنِيّ" يشكّل جِسْرَ عبورٍ اجتماعي.

فملامحها السوسيواقتصادية والثقافية تسمح لها بأن تكون فاعلة في صناعة التغيير، لهذا كانت هذه الطبقة تحسم كثيراً من النتائج في لحظات من التاريخ السياسي للوطن العربي، فحركات التحرر والاستقلال كانت ممهورة بتوقيع مُنْتَسِبِي هذه الطبقة في أكثر من بلد عربي، كما أن عمليات الانتقال السياسي والاجتماعي، في شكل ثورات وحركات ثقافية تنويرية، كانت أيضاً من صنعهم.

لكن مع استراتجيات التهميش والتفقير التي يجيدها صُنَّاع القرار العربي، فقد باتت الطبقة الوسطى تتعرض للتآكل والانمحاء، لتنتهي من ممارسة أدوارها الطليعية، وتصير منشغلة بـ"قلق اليومي" و"سلطة الخبز" كما الطبقة الدنيا.

فالأستاذ مثلاً، الذي كان محسوباً إلى وقت قريب على الطبقة الوسطى، بات اليوم مصنَّفاً ضمن خانة "المهدَّدين بالفقر".

فالفئات التي كانت إلى حد قريب تُصنَّف ضمن الطبقة الوسطى بدأت تفقد مواقعها الطبيعية يوماً بعد آخر، ليس فقط في الوطن العربي، بل حتى في الضفاف الأخرى، فالمحامي مثلاً الذي كان محسوبا في الغرب على الطبقة الغنية بات منحشراً اليوم في الطبقة الوسطى، فيما انحدر الأستاذتعريفيّاً إلى الطبقة الدنيا، فثمة تغيرات في البنية الاجتماعية تحدث باستمرار بسبب معطيات داخلية وخارجية، لكنها لا تنأى بالمرة عن السؤال الاجتماعي والبعد التدبيري.

ساهمت التحولات المجتمعية التي عرفتها الدول الغربية تحديداً في بلورة مجموعة من الصيغ و المفاهيم التي تؤطّر بناء الدولة وحضورها، الشيء الذي جعلنا في سياقات مختلفة نتحدث عن الدولة الحارسة والدولة المتدخلة ودولة الرفاه، فضلاً عن أشكال الإدارة والتدبير في مستوى المركزية واللا مركزية والتركيز وعدم التركيز، وكل ذلك أملاً في تحقيق مطلب الإدماج لفئات المجتمع كافةً.

اتصالاً بذات السياق ستظهر السياسات الاجتماعية المتأسسة على فكرة "وَسْطَنَةِ المجتمع"، أي توسيع الطبقة الوسطى وجعلها الأكثر حضوراً في التشكيلات الاجتماعية، طلباً للتوازن وامتصاص الاحتقان، فقد وَعَت هذه الدول مبكراً أن سرّ الاستمرارية يكمن في مدخل الوسطنة لا التفاوت و الإقصاء، وأن الأهم هو "قوة المجتمع لا قوة الدولة".

لكن حتى الآن، فإن مطمح "وَسْطَنَة المجتمع" يظلّ نصّاً غائباً في تدبير السياسة الاجتماعية العربية، بل إنه لا يتجاوز في كثير من الأحيان منطق الشعاراتية التي تعلن الانتصار للذين هم تحت.

فالسياسة الاجتماعية العربية، و في مقاطع كبرى منها، لا تفيد فقط بغرض ضمان الاستمرارية، بل تفيد في شرعنة وتبرير هذه الاستمرارية وإنتاج القبول الاجتماعي بها. ذلك أنه بعد خروج الاستعمار وجد الحاكم العربي نفسه مدعوّاً إلى إنتاج "الطاعة" وضمان الاستمرارية، لهذا كانت الخطوة الأولى في مسلك التطويع تقتضي التخلص من هذه الطبقة الوسطى، والعمل على تقليم أظافرها بالقمع تارة، وبالتفقير تارة أخرى.

إن السياسة الاجتماعية التي تم الارتكان إليها في كثير من أقطار الوطن العربي، كانت محكومة برهانات الضبط الاجتماعي، وإكراهات التقويم الهيكلي المفروض قسراً من البنك الدولي، كما كانت وما زالت مغموسة في حمأة الصراع السياسي، وهو ما يجعلها سياسة لتسكين التوتر الاجتماعي وامتصاص الغضب الجماهيري، أي إنها سياسة لتدبير المؤقت، لا للذهاب بعيداً في خيار وسطنة المجتمع وتحقيق الحد المطلوب من العدالة الاجتماعية.

فلقد ظلّ "الاجتماعي" دوماً محور صراعات وحروب رمزية، بل إنه كان مرتهنا في كثير من الأحيان إلى مقترب الفعل وردّ الفعل، وهو ما يجعل السياسة الاجتماعية في كثير من الأحيان مجرد ردود أفعال لتدبير مطالب يومية وتدبير الأزمة بدل حلها.

إلى ذلك كله تظلّ الطبقة الوسطى بالوطن العربي على درب الانمحاء والممانعة، حتى في دول الوفرة النفطية، تقاوم الانقراض وتتعرض باستمرار للتآكل و"التنكيل الرمزي"، فصانع القرار يتمثلها كعدو طبقي أو كمنافس احتياطي يجب التخلص منه عن طريق إلهاب الضرائب وتبخيس العمل السياسي والثقافي. فهل والحالة هاته، يمكن لهذه الطبقة أن تستعيد عافيتها وأن تصير مساهمةً، فعلاً لا قولاً، في كتابة ممكن مختلِف؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً