تابعنا
على الرغم من أن الهيكل السياسي الديمقراطي متعدد الأحزاب الذي بدأ في عام 1950م في تركيا تعرَّض للانقطاع مرات عدة، بسبب الانقلابات العسكرية وتدخلات البيروقراطية المدنية، فإنّ الوعي الديمقراطي للشعب التركي ينضج مع مرور الوقت.

رغم مُضِيّ ما يقرب من ثلاثة قرون على بدء الدراسات الاستشراقية، فإنّ العقلية الغربية المتمركزة في أوروبا والولايات المتحدة لم تستطِع تغيير رأيها البدائي ومنظورها الاستشراقي حول تركيا والعالم الإسلامي.

وهذه العقلية الغربية التي تنصِّب نفسها في المركز على مَرّ العصور، وتنبذ وتستبعد الحضارات والثقافات الأخرى، قد تجلَّت في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية التي أُجريت في 14 و28 مايو/أيار من العام الجاري.

على الرغم من أن الهيكل السياسي الديمقراطي متعدد الأحزاب الذي بدأ في عام 1950م في تركيا تعرَّض للانقطاع مرات عدة، بسبب الانقلابات العسكرية وتدخلات البيروقراطية المدنية، فإنّ الوعي الديمقراطي للشعب التركي ينضج مع مرور الوقت.

كما أن سياسات حزب العدالة والتنمية التي تشجع باستمرار على المشاركة الديمقراطية الحرة للجمهور، وإدراك الرئيس أردوغان المطالب المشروعة للشعب، بجانب عوامل أخرى مثل فشل النخب المنفصلة عن الشارع التركي، أو خطط الدول الغربية التي تريد إدارة تركيا دولة تابعة لها.. كل هذه العوامل أسهمت في تطور الوعي السياسي داخل تركيا، ودعمت المشاركة السياسية القوية التي تنعكس في صناديق الاقتراع كل انتخابات.

ونتيجة فوز حزب العدالة والتنمية في جميع الانتخابات التركية على مدار الأعوام الـ21 الماضية، حاولت النخب المنفصلة عن الشعب، وكذلك الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة، تفسير ذلك بمزاعم لا أساس لها، مثل وجود "تطلعات ديكتاتورية" للحزب الحاكم، و"صعود القومية الراديكالية"، و"أسلمة الدولة".

يتجلى ذلك في مقال نُشر مؤخراً في صحيفة الغارديان البريطانية، وهو مثال واضح على مناهج تمركزية أوروبا ومعاداتها للإسلام. ويزعم هذا المقال ذو العنوان الاستفزازي والمهين أن فوز رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية هو "انتصار للاستقطاب" لا الوحدة، ويهدف المقال منذ بدايته إلى الطعن في هذا الفوز الانتخابي.

كما يحتوي المقال الذي نشرته الصحيفة البريطانية على عديد من النقاط العدائية، ففي الفقرة الأولى يستنكر انتقادات المثليين التي عبّر عنها الرئيس أردوغان في خطاب الشرفة بعد فوزه في الانتخابات.

ثم يدّعي أن أردوغان "عسكر أجندة البلاد بذريعة محاربة الإرهاب، وأن الدولة تضايق وتقمع السكان الأكراد سياسياً"، في إشارة إلى انتقاد الدولة لحزب HDP -حزب اليسار الأخضر كما هو معروف الآن- الذي تدّعي الغارديان أنه "يمثل الأكراد" في تركيا.

في البداية، قلل المقال -كباقي معظم وسائل الإعلام الغربية- من خطر الإرهاب الذي تواجهه تركيا. فكيف يمكن أن يكون من الخطأ انتقاد حزب سياسي لا يرى أنه بحاجة إلى قطع علاقاته مع تنظيم PKK الإرهابي، المسؤول عن مقتل أكثر من 40 ألف جندي ومدني على مدار 40 عاماً؟

ومع ذلك لا يزال HDP يتمتع بسلطة التمثيل في مجلس الأمة التركي بـ61 مقعداً، ودخل البرلمان في الانتخابات التي أجريت في 14 مايو/أيار، وهذا أحد أوضح الأمثلة على ارتفاع سقف الديمقراطية في تركيا.

من ناحية أخرى، لا يمثل هذا الحزب جميع الأكراد كما يزعم مقال الغارديان، فعدد المواطنين الأتراك من أصل كردي أعلى بعدة مرات من الأصوات التي فاز بها هذا الحزب.

توجد قضية أخرى يحاول المقال تشويهها بشكل فج، وهي قضية اللاجئين السوريين في تركيا.

لقد أكّد الرئيس أردوغان باستمرار أن قضية اللاجئين هي مسألة إنسانية على مدى السنوات الأربع الماضية، وأنه لا يمكن حل قضية إرسال اللاجئين السوريين إلا في إطار عملية سلام سياسي داخل سوريا. وعبّر مراراً وتكراراً بأن اللاجئين يمكنهم العودة طوعاً بعد الاتفاقات التي يتعيّن إجراؤها، وبعد استكمال بناء مساكن توفر الظروف الإنسانية الأساسية، إذ يمكن لهؤلاء الأشخاص الاستقرار في حال عودتهم إلى بلادهم.

وبينما يحدث ذلك في أرض الواقع، تورد الصحيفة في مقالها: "ينتظر السوريون بخوف متى سيفي أردوغان بكلمته ويرحِّل مليون سوري إلى مستقبل غامض للغاية".

ومع ذلك لم يذكر المقال حقيقة أن اليمين المتطرف في المعارضة هو من يستغلّ قضايا اللاجئين كابتزاز سياسي، ويستخدمون عودة السوريين إلى بلادهم -بعد الانتخابات مباشرة- وعداً انتخابياً.

بدأت الدولة التركية في توطين اللاجئين السوريين في المناطق التي جرى تطهيرها من الإرهاب، بفضل العمليات العسكرية الأربع الكبرى التي نُفِّذَت في شمال سوريا خلال السنوات الست الماضية، وحتى الآن استقر نحو 500 ألف لاجئ طواعية في المنازل التي بنتها تركيا في هذه المناطق.

وتعمل تركيا بقيادة أردوغان على توفير الاحتياجات الأساسية لهؤلاء الناس، مثل الأمن والتعليم والصحة والطاقة والأمن الغذائي، والآن وبدعم من قطر بدأت في بناء المنازل التي تؤمن عودة طوعية وآمنة لهم.

وبينما لا يذكر مقال الغارديان خطاب المعارضة: "سنطرد السوريين من تركيا"، يعرض خطة أردوغان التي ذكرناها أعلاه على أنها "خطة خوف ونفي"!

من ناحية أخرى، وصفت وسائل الإعلام الغربية، التي لا تستطيع تقبُّل فوز أردوغان الانتخابي الأخير، هذا الانتصار بأنه "انتخابات حرة ولكن غير عادلة".

ووفق المقال المذكور، تقول الغارديان إنّ "أردوغان يهيمن على وسائل الإعلام التركية". ومع ذلك فإنّ جميع قنوات الإعلام الغربي التي تبث باللغة التركية دعمت -بشكل غير مشروط وغير محدود- معارضي الحكومة في تركيا. يكفي أن نلقي نظرة على التقارير والأفلام الوثائقية والمقابلات التي أعدّتها العام الأخير، بما في ذلك المواقع الإخبارية المشهورة عالمياً، لكي ندرك ذلك.

إنّ هذا النهج العدائي الظاهر في كل جملة تقريباً من المقال هو أوضح مثال على أن الغرب لا يستطيع تقبُّل الديمقراطية التركية التي تمثلت بنسبة إقبال تجاوزت 87%، وانتخاب أردوغان بأغلبية لم يحصل على مثلها زعيم في أوروبا.

هذا النهج هو مظهر نموذجي لظاهرة "الإسلاموفوبيا" التي تعتقد -منذ المستشرق إرنست رينان- أن الأتراك والمسلمين هم "برابرة" بعيدون عن مفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة، ومن المؤمل أن يؤدي هذا الانتصار الديمقراطي إلى تساؤلات جدية حول عقلية الغرب التي تنبذ الآخر، وحول دور تركيا في الاستقرار والسلام العالمي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً