اعتبر ثلاثة مرشحين للانتخابات الرئاسية الليبية أن الوصول إلى إجراء الاستحقاق الرئاسي هو الحل الوحيد الشامل للأزمة الليبية (AA)
تابعنا

الباحث الألماني ولفرام لاشر الذي درس المجموعات العسكرية وظهيرها السياسي في ليبيا وكتب كتابه "تمزيق ليبيا"، يُبيّن ظاهرة جديدة في دراسة التحولات السياسية.

هذه الظاهرة هي الاتساق بالدولة من المجموعات المسلحة، كلهم يدّعي وصلاً بليبيا ومؤسساتها وليبيا لا تُقرّ لهم بوصال!. كما أن هذه الظاهرة التي جعلت كافة المنخرطين في المشهد الليبي يبحثون عن شرعية عبر الانتخابات أو عبر التحالفات والصفقات السياسية، فقد تبيّن أن العملية الانتخابية أصعب مما تصوّر البعض. فبدون بيئة متوازنة سياسياً وأمنياً، وبدون مؤسسات قضائية فاعلة يصعب تنظيم العمل السياسي، لذا فإن تأجيل الانتخابات أو تمديد العملية الجارية لشهر أو أشهر يبدو هو الأقرب لما يحدث في ليبيا الآن.

الأحداث التي تدلّ على هذا كثيرة، فعودة المبعوثة الأممية السابقة الأمريكية ستيفاني وليامز تشير إلى رغبة في تعديل المسار، فقد أظهرت المرأة أنها قوية بما يكفي لكبح جماح بعض الساسة لاختطاف المشهد، خاصة مجلس النواب الذي لم يرقب في المشهد السياسي إلّاً ولا ذمة، بل ضرب بعرض الحائط الاتفاقات المبرمة مع القوى السياسية في غرب ليبيا، ومنها تصريحات رئيس المفوضية العليا للانتخابات عن إمكانية تأجيل الانتخابات. فهو في الواقع تحدث عن إزاحة وليس تأجيلاً، ولم أجد في اللغة أو المنطق فرقاً، لذا فهو تأجيل.

كذلك قدّم المجلس الأعلى للدولة مقترحاً يقتضي أن تكون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في فبراير/شباط القادم، وهناك تصريحات من مسؤولين دوليين كرئيس الوزراء الإيطالي والسفير البريطاني في ليبيا عن كون البيئة غير مناسبة لإجراء الانتخابات، كما أن هناك تهديداً قوياً من بعض القوى بمنع حدوث الانتخابات في المنطقة الغربية.

المجتمع الدولي، ونعني به القوى الغربية هنا، يحاول في أي أزمة دولية أن يوجِد عنصرين مهمَّين هما الاستقرار وقابلية التوقع، فالأول يعني أن يخفّ العنف لأدنى درجاته وأن توجد شرعية يمكن لكافة الدول أن تتعامل معها وتحقق أهداف الدول المنخرطة في الصراع وكذلك أهداف المجتمع الدولي التي تندرج تحت قانون الحق في الحماية والمعروف اختصاراً "R2p"، وهو الذي يعطي لهذه الدول الحق في التدخل في هذه الدول عندما تهدد السّلم والأمن الدوليَّيْن كقضايا الهجرة والإرهاب، لذا فإن الدخول في انتخابات لا يمكن توقع نتائجها يبدو عسير الهضم على هذه الدول، ولا يمكن التعامل معه ووضعه في مسار جيواستراتيجي يحقق التوازن الإقليمي في منطقة شمال إفريقيا، ولا يزيد من توتر العلاقات الدولية أكثر مما هي عليه في أزمات أخرى كإيران وأوكرانيا وشرق المتوسط.

إعادة تشكيل التحالفات القديمة

في هذا السياق بدأ تفاعل القوى المحلية الليبية لتشكيل تحالفات جديدة قد تسهم في رسم معالم مرحلة جديدة قديمة، أقول قديمة جديدة لأن دورة النزاع مستمرة في ليبيا بين الصراع والتفاوض والمحاصصة وتوسيع الشبكات المسيطرة على مفاصل الدولة والاقتصاد الليبي فيما يُعرف باقتصاديات النزاع، هذا قديم، لكن الجديد هو الوجوه الجديدة وطبيعة التحالفات الجديدة التي ربما ستدخل الانتخابات مشتركة إذا جرت الانتخابات، وربما ستعزز سلطة حكومة الوحدة الوطنية التي يبدو أنها ستستمر في الحكم لحين حلّ مشكل الانتخابات.

هنا يبدو المشهد الليبي بين ضرورات الحاضر وشروط بناء المستقبل، بين الصفقات والتحالفات الوقتية، والمسار السياسي الذي يحتاج لأطر ومقاربات فكرية ورؤية مستقبلية ومؤسسات مبادرة حتى يمكن التقدّم خطوة للإمام، بين هذه الثنائيات يبدو التحالف هو المنطق الأقرب للساسة في ليبيا وهذا هو الممكن في ظلّ غياب تيار وطني فاعل، الاستقرار مقابل البحث عن جذور النزاع هذا هو عنوان المرحلة.

الانتخابات قد تُحرِّك ما هو ساكن في ليبيا، وقد تكون بداية لشرارة نزاع، وقد تكون بداية لتحالفات بين دول وتيارات سياسية، خاصة في العلاقة بين فرنسا ومنطقة شمال إفريقيا، لكن هل ستجد تركيا نفسها مسؤولة مع الولايات المتحدة الأمريكية للتعامل مع روسيا في ليبيا وفي إفريقيا وكيف سيكون هذه الإحلال؟، وماعلاقة حلف الناتو بكل ذلك؟، هذه السياقات الكبرى ستجعل الملف الليبي أكثر تعقيداً من مجرد سؤال هل ستُجرى الانتخابات في موعدها أو لا. هذا سيجعل السيناريو القادم متعدداً ويتأثر بعوامل خارجية كثيرة. لكن كيف سيكون السيناريو القادم في ظلّ هذا السياق؟ هنا يمكن رصد عدة سيناريوهات.

السيناريو الأول: انتخابات بعد توافقات جديدة، وهو إجراء انتخابات في بداية السنة القادمة بعد الوصول لاتفاقات بين المجالس والقوى السياسية وربما تقوم "ستيفاني ويليامز" بدور محوري في هذا الشأن، يعزز ذلك من إمكانية القبول بنتائج الانتخابات والوصول لحالة استقرار، وربما سيكون هناك توافق بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية أكثر حول العملية الانتخابية بالضغط الأمريكي المستمر على روسيا، أو من خلال التوافق التركي الروسي على استبدال شخصيات أخرى من النظام السابق بسيف الإسلام القذافي.

السيناريو الثاني: وهو السيناريو الأسوأ العودة لمنطق العنف السياسي، وهو إجراء الانتخابات وفق هذه الظروف وهذا قد يعيق المسار السياسي، وهو السيناريو الذي قد يُعيد ليبيا إلى نقطة البداية حيث منطق البندقية والقنابل هو الذي يحرّك العملية السياسية برمتها، وهذا لن يفيد لا القوى المحلية ولا الدولية، ولكنه، على كل حال، سيناريو محتمل بناء على أخطاء المجتمع الدولي المتكررة في مثل الحالة الليبية.

السيناريو الثالث: الذهاب لتحالفات جديدة تمهيداً للانتخابات، وهو الوصول لتحالف بين قوى فبراير/شباط من بينها خليفة حفتر وعبد الحميد الدبيبة، أو بين قوى أخرى من مصراتة ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، وهذا قد يعني إقصاء سيف القذافي، هذا التحالف يقضي بتشكيل حكومة مشتركة لمدة سنة ونحوه لحين تهيئة الظروف لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهذا قد نؤشّر له باللقاء الذي جمع عبد الرزاق الناظوري الذي يحلّ محلّ خليفة حفتر كقائد عام للجيش، ورئيس الأركان للحكومة محمد الحداد.

هذه السيناريوهات تظلّ ممكنة ما لم تحدث مفاجآت تخرج عن العوامل المؤثرة حالياً في المشهد الليبي، لكنّ الشيء المتّفق عليه هنا أنّ الانتخابات تبدو خياراً صعباً، ورغم شكّ الجميع في أنه طريق للحلّ إلا أنّ مغالطة معرفية يقع فيها الجميع وهي أن نقطة الوصول للانتخابات تبدو بعيدة تماماً عن عنق الزجاجة.

في ليبيا نغوص في الحاضر على حساب المستقبل، ونرسم بأيدينا دوائر متكررة من الصراعات والمفاوضات والمحاصصة على حساب قوة الدولة الليبية ومسار مؤسساتها، وأن المساومات واللعب السياسية قد تنفجر في لحظة، قد ندرك عندها بوضوح أن الاستجابة للواقع بالطرق الصحيحة هي الفضيلة الكبرى التي تفضي للمستقبل وتتجاوز ضرورات الحاضر.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً