تابعنا
فرق شاسع بين الآمال التي علقتها البعثة الأممية إلى ليبيا على ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي عقد في العاصمة التونسية والنتائج التي خرج بها الملتقى.

فبالإضافة إلى الانتقادات التي واجهها الملتقى حتى قبل بدايته، فإن مخرجات المؤتمر جاءت مخيبة لآمال المشاركين والمنظمين على حد سواء، الذين أرادوا أن يكون الملتقى بوابة "لليبيا جديدة"، وفق تعبير رئيسة البعثة الأممية بالوكالة ستيفاني وليامز. لكن وعلى الرغم من أن البيان الختامي رحّل البتّ في العديد من القضايا الجوهرية، فإنه أبقى العهدة بيد الملتقى نفسه، ما سيعطي مساحة قرار واسعة للبعثة الأممية في رسم ملامح المرحلة القادمة في ليبيا.

مَثَّل ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي عُقد بين 7 و15 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بالعاصمة التونسية، إعادة إحياء لمشروع "المؤتمر الوطني الجامع" الذي كان المبعوث الأممي المستقيل غسان سلامة قد خطط له منتصف العام الماضي، قبل أن يؤدي هجوم حفتر على العاصمة الليبية طرابلس في أبريل/نيسان 2019 إلى إفشال المحاولة وعرقلة المسار السياسي، وصولاً إلى استقالة سلامة لاحقاً. هذا التشابه بين المبادرتين بدا واضحاً من خلال الأهداف والمخرجات المأمولة، وكذلك التطابق في عدد كبير من الأسماء المدعوة.

ومِثل مبادرة سلامة السابقة فإن الملتقى أُريدَ له أن يمثل بوابة الانتقال إلى مرحلة جديدة في الصراع الليبي تُتَجاوز فيه مرحلة الصخيرات الحاكمة للنقاش السياسي الليبي منذ نهاية عام 2015. إذ مَثَّل اتفاق الصخيرات الذي جرى تحت وصاية البعثة الأممية، الإطار السياسي والمرجعي للمؤسسات السياسية الليبية خلال السنوات الخمس الماضية، وعلى أساسه شُكِّل المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة، فيما أجج رفض حفتر ومجلس النواب برئاسة عقيلة صالح لهذا الاتفاق الانقسام الليبي وأذكى نار الصراع الداخلي. 

وقد جاء الملتقى في إطاره السياسي مستنداً إلى مخرجات مؤتمر برلين الذي عُقد في الشهر الأول من العام الجاري، وكذلك إلى قرار مجلس الأمن 2510 الذي شدد على مخرجات مؤتمر برلين. 

وكان مؤتمر برلين أكد عدة نقاط من أهمها ضرورة وقف إطلاق النار والتزام حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا وأهمية العودة إلى العملية السياسية. وفي إطار العودة إلى العملية السياسية فإن مؤتمر برلين دعا لتشكيل مجلس رئاسي فعال وحكومة موحدة يوافق عليها مجلس النواب، على أن يُعمل على إصلاح القطاع الأمني والاقتصادي والمصرفي الليبي. 

وفي ضوء نتائج مؤتمر برلين، جرى العمل على الدفع باتجاه مفاوضات وقف إطلاق النار وصولاً إلى التفاهمات التي تُوُصِّل إليها ضمن إطار لجنة 5+5 العسكرية نهاية أكتوبر/تشرين الأول بجنيف، التي تضمنت اتفاقاً لوقف إطلاق النار والعمل على إخلاء نقاط التماس وخروج المرتزقة خلال ثلاثة شهور، كما جرى اتخاذ خطوات نحو إعادة انتاج النفط الليبي ليتجاوز مليون برميل يومياً، فضلاً عن خطوات بمجال إصلاح القطاع المصرفي والمالي الليبيَّين. وبشكلٍ موازٍ عُقد ملتقى الحوار السياسي الليبي بتونس لإنجاز الاستحقاق السياسي لمخرجات مؤتمر برلين.

وعلى خلاف المأمول فقد انتهى المؤتمر من دون تحديد آليات الانتقال إلى السلطة التنفيذية الانتقالية والشخصيات التي ستقودها، هذا على الرغم من الإعلان عن التوافق على هيكلية السلطة التنفيذية وعلى استحداث منصب رئيس الوزراء مع نائبين لقيادة المرحلة الانتقالية.  

لكن بالمقابل احتفظت البعثة الأممية بالوصاية غير المباشرة على المرحلة القادمة. فقد أعلن البيان الختامي للبعثة الأممية توافق المجتمعين على "خارطة طريق للمرحلة التمهيدية للحل الشامل" تتضمن العمل على "إجراء انتخابات ديمقراطية شاملة ذات مصداقية في 24 ديسمبر/كانون الثاني 2021، كفرصة لإنهاء المرحلة الانتقالية".  

وبمواجهة غموض آليات تطبيق "المرحلة التمهيدية" وعلى رأسها الانتخابات، أوكل البيان الختامي مهمة "متابعة التقدم بقضايا المرحلة التمهيدية" إلى الملتقى نفسه الذي يفترض أن يستمر بعقد اجتماعاته أونلاين.

إبقاء عهدة متابعة مخرجات الملتقى غير التفصيلية ورسم المشهد السياسي خلال الـ18 شهراً القادمة بيد الملتقى الذي من الواضح عدم امتلاكه آليات للمتابعة وفرض الإجراءات على الأرض، يعني أن البعثة الأممية ستحتفظ بحق الوصاية على المرحلة القادمة، ويترك إشارات استفهام حول مدى قيادة الليبيين لهذه المرحلة.  

هذا فضلاً عن أن شرعية الملتقى ومدى تمثيله للكل الليبي هي محل انتقاد من العديد من الأطراف الليبية، وذلك في ظل تجاوز الأجسام السياسية الحالية التي تتمتع بشرعية انتخابية، وإن كانت محل تنازع كمجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وكذلك في غياب آليات واضحة لاختيار الشخصيات الـ75 التي مثلت الليبيين في هذا الملتقى، وهو ما علق عليه البيان الختامي الذي نشرته البعثة الأممية بالقول إنه "من غير الممكن أن يمثل اجتماع واحد التنوع الليبي تمثيلاً كاملاً".

نقل شرعية قيادة المرحلة القادمة إلى ملتقى الحوار السياسي ومنه إلى البعثة الأممية، سيعرِّض مرجعية المؤسسات الليبية الحالية والقائمة على شرعية اتفاق الصخيرات للخطر. هذا التحول المفترض في المرجعية الشرعية تمكن قراءته على سبيل المثال من خلال دعوة البيان الختامي لتشكيل لجنة قانونية لمتابعة ترتيب الإجراءات بالمرحلة التمهيدية وصولاً إلى الانتخابات، على أن يُحدَّد تركيب هذه اللجنة ومهامها من قِبل منتدى الحوار الليبي أيضاً، فيما تقوم مؤسسات الدولة المعنية بالتعاون معها. 

على الرغم من أن مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي لم ترقَ إلى آمال المنظمين له، فإن من المؤكد أن نتائجه ستترك أثرها على ملامح المشهد السياسي الليبي في الفترة القادمة. وفي السياق ذاته فإن مخرجات الملتقى التي ستعتمدها الأمم المتحدة ستضاف إلى الاتفاق السياسي الليبي عام 2015، ما سيشكل أرضية قانونية ومرجعية جديدة بالأزمة الليبية تلعب فيه البعثة الأممية دوراً أكبر لحين عقد الانتخابات المفترضة. 

تعزيز دور البعثة الأممية على حساب اللاعبين المحليين يعبر عن عودة المجتمع الدولي وتحديداً الولايات المتحدة إلى الملف الليبي من بوابة الدبلوماسية الدولية، الذي جاء بجزء منه كرد فعل على الحضور العسكري المتزايد لروسيا وتركيا ميدانياً، وفي السياق نفسه تُمكن قراءة موافقة الكونغرس الأمريكي على قانون "استقرار" ليبيا. وعلى الرغم من رغبة البعثة الأممية بلعب دور أكثر فاعلية في الملف الليبي واستلام زمام المبادرة سياسياً، فإن التحديات الميدانية لا تزال حاضرة بمواجهة عملية الانتقال إلى المرحلة التمهيدية وتهيئة الإطار القانوني والمناخ السياسي للانتخابات الموعودة. بخاصة في ظل ازدياد الحضور التركي والنفوذ الروسي، ما يزيد عدد السيناريوهات المحتملة في المشهد الليبي بالفترة القادمة ويجعل مهمة البعثة الأممية أكثر تعقيداً مما كانت عليه نهاية 2015. 

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.  

TRT عربي
الأكثر تداولاً