الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان (Others)
تابعنا

ففي خلفيات الزيارة أمران بارزان، أولهما تجاوز أو ربما تغاضٍ فرنسي/أوروبي عن قضية اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، وثانيهما إطلاق مبادرة لرأب الصدع بين دول الخليج، السعودية تحديداً، ولبنان على خلفية تصريحات قرداحي حول التدخل السعودي في اليمن وما ترتب عليه من آثار كارثية على المدنيين.

لدى ماكرون قناعة، وربما لدى جميع القادة الغربيين، بأن الإصرار على إعلاء شأن حقوق الإنسان لا يخدم مصلحتهم، خصوصاً في ظلّ التعاطي مع أزمات عابرة للحدود تمسّ قارّتهم مثل أزمة اللاجئين أو أزمة الطاقة. فالسعودية، على سبيل المثال، تتمتع بثقل استراتيجي يتجاوز كثيراً بعض القضايا الحقوقية. فالإدارة الأمريكية، على سبيل المثال، وإن لم تفتح خطوطاً مباشرة من الاتصال مع وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، إلا أنها تقاربت مؤخراً مع الرياض من أجل البحث في مسألة أسعار النفط وإمدادات الطاقة من أجل إنقاذ الاقتصاد العالمي من حالة ركود سبّبتها جائحة كورونا قد تكون الأسوأ منذ عام 2008. والرئيس ماكرون ليس استثناء من ذلك، ففرنسا تسعى حثيثاً في السنوات الأخيرة لتأكيد نفوذها في منطقة الشرق الأوسط في ما تراه فراغاً استراتيجياً هو نتيجة الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة خصوصاً مع خروجها المذلّ من أفغانستان، فضلاً عن المكاسب الاقتصادية المباشرة، ففي زيارته هذه استطاع ماكرون ضمان عدة صفقات بمئات المليارات من الأسلحة الفرنسية التي سوف تُشحن لدول الخليج على رأسها طائرات رافال.

تعود خشية فرنسا من الانسحاب الأمريكي، أو إعادة التموضع الأمريكي إذا صح التعبير، والفراغ الناتج عنه إلى سببين، هما أولاً أن هذا الفراغ يأتي في ظل إعادة واشنطن لحساباتها مع حلفائها الأوروبيين، وما نتج عن ذلك من فتور بين باريس وواشنطن عبّرَت عنه أزمة الغواصات النووية مع أستراليا والتي ألغت صفقتها مع فرنسا لتستبدل بها أخرى مع الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي كلّف باريس خسائر بعشرات المليارات، هذا فضلاً عن صورتها التي تضررت دولياً. فالولايات المتحدة في مسعاها للتصدي للصعود الصيني تسعى لخلق تحالفات تتّسم بديناميكية أكبر، ولذلك تحاول أن تجعل الدول الأنغلو-سكسونية مثل بريطانيا وأستراليا العمود الفقري لهذه التحالفات وخط دفاعها الأول. بكلمة أخرى، تريد واشنطن حلفاء يقولون: "سمعنا وأطعنا"، أما باريس فتدرك أنها لا تنتمي إلى هذا المحور، فلطالما حاولت فرنسا النأي بنفسها بعيداً عن الصورة النمطية التي تجعل أوروبا مجرد تابع ذليل للولايات المتحدة، وكلنا يتذكر سياسة "الكرسي الفارغ" التي اتبعتها فرنسا بانسحابها من الناتو إبان حكم شارل ديغول، أو رفض باريس الانضمام إلى التحالف الأمريكي لغزو العراق عام 2003 جنباً إلى جنب مع ألمانيا على الرغم من أنها غيرت من موقفها لاحقاً بعد الغزو وانضمّت إلى التحالف.

ثانياً، تدرك باريس أن الفراغ في عالم السياسية لا يمكن أن يصمد طويلاً، فالأنظمة السياسية، الإقليمية كانت أو الدولية، تتجه سريعاً نحو إعادة التوازن من خلال سياسة ملء الفراغ التي تقوم بها الدول المتنافسة وصاحبة الطموح في التأثير والنفوذ. بالنسبة إلى باريس هذه المعادلة كابوس. فعند مراجعة القوى في المنطقة التي من شأنها أن تملأ الفراغ الذي يسبّبه الانسحاب/إعادة التموضع الأمريكي، تجد باريس أمامها كل من أنقرة وموسكو، وكلتاهما تشكّل منافساً خطيراً وكبيراً في ذات الوقت.

لا يجادل أحد بأن أوروبا على مدار تاريخها ترى في روسيا تهديداً لوحدتها، سواء السياسية أو الجغرافية، واليوم تتقاطع روسيا مع أوروبا بالكثير من الملفات، على رأسها أزمة أوكرانيا التي من شأنها أن تهدّد باندلاع حرب واسعة في أوروبا، فضلاً عن ملف الطاقة الذي تستخدمه موسكو لابتزاز أوروبا دوماً. على الرغم من هذا الصداع الجيوسياسي، فإن باريس تتفهم أن تحركات موسكو ضدّ أوروبا تأتي في سياق تنافسها مع الولايات المتحدة ونكاية بها، وفي حال استطاعت أوروبا فك ارتباطها بأمريكا فإن تهديدات موسكو سوف تتراجع، وتغلّب على العلاقة مبدأ المنفعة المشتركة، فأوروبا تحتاج إلى الدفء من روسيا، وروسيا تحتاج إلى أن تملأ جيوبها باليورو.

على العكس ترى باريس في أنقرة منافساً لا يمكن إخضاعه. وبعيداً عن البعد المتعلق بالطاقة كما هو الحال مع روسيا، فإن تركيا تتمتع بحضور وازن في المنطقة، ولا تُعَدّ دولة خارجية عنها، فشاء من شاء وأبى من أبى، تبقى تركيا دولة شرق أوسطية أكثر من كونها دولة أوروبية. وإذا كانت باريس تنظر إلى روسيا كأنها وافد خارجي إلى المنطقة ولا تتمتع بقبول شعبي نظراً إلى ما تقوم به في سوريا، فإن تركيا تتمتع بنفوذ واضح سواء على الجانب الناعم نظراً إلى مواقفها الداعمة للعديد من القضايا الوطنية، ومصداقيتها التي أكدتها في الأزمة الخليجية ضدّ قطر، أو على الجانب الصلب متمثلاً بحضورها العسكري القوي في سوريا وليبيا وأذربيجان. ولذلك ترى باريس في أنقرة منافساً قوياً لها حول النفوذ في الشرق الأوسط، خصوصاً أن نفوذ أنقرة لم يعُد يقتصر على دول المشرق فقط، بل ودول المغرب أيضاً، وأوضح مثال العلاقة التي تربط تركيا بكل من ليبيا والجزائر.

المتتبع لخطوات فرنسا في المنطقة لا يحتاج إلى كثير عناء ليدرك كيف تسعى باريس لاحتواء نفوذ تركيا وصعودها. خذ على سبيل المثال سياسة فرنسا في شرق المتوسط، ومحاولاتها المتكررة لمنع أي توافق بين تركيا واليونان من خلال تصليب موقف الأخيرة من خلال الدعم الدبلوماسي والعسكري الذي تقدّمه لأثينا. هذا فضلاً عن زيارات الرئيس ماكرون المتكررة للعراق على الرغم من أن هذا البلد لم يكُن تاريخياً ضمن النفوذ الفرنسي. ولكن لقرب العراق من تركيا وتشابكهما في العديد من الملفات الحدودية فإن فرنسا معنيَّة بإبقاء نفوذ تركيا في العراق على الحافة. أما عن سوريا ولبنان فحدِّثْ ولا حرج. وليس مستغرَباً أن تكون المصالحة بين لبنان والخليج على رأس أولويات الرئيس ماكرون في زيارته الأخيرة للمنطقة. ففرنسا لا تريد أن يسقط لبنان -وهو الأمر الذي من شأنه أن يفتح البلاد التي كانت وما زالت مغلقة إلى حد كبير على النفوذ الفرنسي- للتدخلات الخارجية. وفي ظلّ انهيار المنظومة السياسي العربية، فإن فرنسا تعي أن هذا الانفتاح في لبنان سيكون في صالح القوى الإقليمية الكبرى مثل تركيا وإيران.

لا ينتظر أبناء هذه المنطقة، سواء من فرنسا أو غيرها من الدول الغربية، أي خير يُرتجى على صعيد حقوق الإنسان والحريات. كل ما في الأمر هو وجود رغبة أن تسفر هذه التحركات البراغماتية عن نتائج من شأنها أن تخفف حدة الصراعات في المنطقة، والوصول إلى قناعة بأن سياسة الكل ضد الكل لا تسفر عن أي مكاسب، وأن البحث عن سبل التعاون من شأنه أن يخدم الجميع. لا شكّ أن المصالحة السعودية-اللبنانية حتى عن طريق المبادرة الفرنسية فيها مصلحة للبلدين، ولكن يجب أن تكون وفق قناعة ذاتية وليست عن طريق سياسة الإملاء التي اعتادتها القوى الغربية وترغب في استمرارها. إن التقارب الخليجي-التركي يخدم مصلحة أبناء المنطقة، وهو تقارب يخشاه بعض الدول، على رأسها فرنسا، ومن هنا يبقى الشك يساورنا نحو أي مبادرة فرنسية تجاه قضايا المنطقة.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي