تابعنا
تذهب كوريا الشمالية إلى هذه الجولة من المفاوضات بتوقيت حددته بنفسها، بعد أن أصبحت قدراتها النووية والصاروخية ناضجة وقادرة ليس على تهديد الأهداف الموجودة في شرق آسيا والمحيط الهادئ فحسب، بل وأهداف على الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية.

في ظهيرة يوم الأحد الثالث من أيلول 2017 شعر سكان شبه الجزيرة الكورية بهزة أرضية، أوضح حينها المعهد الجيولوجي الأميركي أن الهزة بلغت شدتها 6.3 درجات، وبعد ساعات أعلنت كوريا الشمالية أنها أجرت أكبر تجربة نووية في تاريخها بنجاح، وأن الهزة الأرضية كانت نتيجة لتلك التجربة، في أقوى تحد للضغوطات الدولية والعقوبات التي هددت دول كبرى بفرضها على بيونغ يانغ حال إجراء تجارب نووية جديدة.

وفي آذار 2018 أعلن الكوريتان عقد قمة بين زعيمي البلدين خلال شهر، وهذا ما حدث بالفعل، وهي القمة التي تخللها اتخاذ قرارات من شأنها أن تقلل التوتر في شبه الجزيرة الكورية، بما فيها خطوات على إعلان انتهاء الحرب، وقد أعقب القمة بين الكوريتين قمة غير مسبوقة بين الرئيس دونالد ترامب وكيم جونغ أون هي الأولى بين زعيم كوري شمالي ورئيس أمريكي، فيما لازالت المحادثات تتواصل بين الكوريتين لتذليل العقبات التي تحول دون إحلال السلام بين الجارتين.

العامل المشترك بين جميع جولات المفاوضات أنها كانت مسبوقة بتوترات تحبس الأنفاس

حازم مصري

شهور قليلة فصلت بين الحدثين، إذ مثل الأول ذروة التصعيد الذي ينبئ بانفجار الأمور وخروجها عن السيطرة، بينما مثل الثاني قمة العمل الدبلوماسي الذي يوحي بانفراجة الأزمة. فما الذي دفع الأطراف المتنازعة لاتخاذ خطوات مفاجئة وعقد لقاءات قمة والدخول في مفاوضات لتحقيق السلام؟

ليست الانفراجة الأولى:

قبل الحديث عن الأسباب التي أدت إلى لجوء الطرفين إلى طاولة المفاوضات، يجب التنبيه على أنها ليس المرة الأولى التي تشهد فيها العلاقة بين كوريا الشمالية من جهة والدول المعادية لها خصوصاً كوريا الجنوبية والولايات المتحدة من جهة ثانية انفراجة، ومحادثات حول تحقيق السلام في المنطقة، ففي عام 1994 وقع الزعيم الكوري الراحل كيم جونغ إيل اتفاقاً مع الولايات المتحدة تتعهد بوجبه بيونغ يانغ، بتفكيك برنامجها النووي العسكري مقابل بناء مفاعلات لأغراض مدنية، وبعدها بخمس سنوات عام 1999 أمر كيم بتجميد التجارب الصاروخية مقابل رفع بعض عقوبات واشنطن على بلاده، وفي عام 2000 زارت وزيرة خارجية الولايات المتحدة مادلين أولبريت بيونغ يانغ، كما قام في العام نفسه الرئيس الكوري الجنوبي إي ميونغ باك بزيارة تاريخية إلى الشمال وذلك ضمن سياسة الأرض المشرقة التي اتبعها تجاه الجارة اللدود.

والملاحظ هنا أن العامل المشترك بين جميع تلك الجولات السابقة والحالية من المفاوضات أنها كانت مسبوقة بتوترات تحبس الأنفاس، كادت أن تدفع نحو المواجهة العسكرية، وهذا ما أصطلح عليه بسياسة حافة الهاوية (Brinkmanship) وهي سياسة برعت بها كوريا الشمالية رغم أنها من ابتكار أمريكي.

دوافع كل طرف:

ومن هنا يمكن فهم أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت كوريا الشمالية لاتخاذ مواقف مرنة والسعي للحوار بدلاً من التصعيد، فعندما تصل الأحداث إلى حد معين من التصعيد تقوم فيها كوريا الشمالية بإجراء مناورة أو تجربة تستعرض من خلالها قدراتها العسكرية ويكثر بعدها الحديث حول الخيار العسكري كما حدث عندما هدد الرئيس ترامب كوريا الشمالية )بالنار والغضب(، عقب إطلاق الأخيرة صاروخين عابرين للقارات لتتوالى الأحداث والتصريحات التصعيدية بين الطرفين إلى أن أجرت بيونغ يانغ تجربتها النووية الكبرى حتى فاجأت كوريا الشمالية سيول وواشنطن بطلب لقاءات قمة، وهو ما تلقته الأطرف كلها والمجتمع الدولي بترحيب كبير.

تذهب كوريا الشمالية إلى هذه المفاوضات بعد أن أصبحت قدراتها النووية والصاروخية ناضجة

حازم مصري

فكوريا الشمالية تذهب إلى هذه الجولة من المفاوضات بتوقيت حددته بنفسها، بعد أن أصبحت قدراتها النووية والصاروخية ناضجة وقادرة ليس على تهديد الأهداف الموجودة في شرق آسيا والمحيط الهادئ فحسب، بل وأهداف على الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية. فهي تريد أن تستثمر هذه القدرات ليس في الحرب التي تعلم جيداً أن المغامرة بها قد تؤدي إلى الإطاحة بالنظام في بيونغ يانغ، بل على طاولة المفاوضات ودبلوماسية حقول الألغام. يضاف إلى تلك الأسباب العقوبات التي استطاعت واشنطن تمريرها في مجلس الأمن مشفوعة بضغوطات مكثفة حتى من أقرب حلفاء النظام الكوري الشمالي مثل الصين وروسيا.

أما كوريا الجنوبية فقد تلقفت المبادرة الشمالية بلا تردد، خصوصاً في ظل قيادة الرئيس مون جاي ان، الذي يتخذ سياسات أكثر انفتاحاً على الجار الشمالي، ولكون الجنوب يدرك أيضاً أن أي خيار عسكري تجاه الشمال، سوف يكون هو الطرف الذي يدفع أفدح الأثمان فيه، إلى جانب اليابان، نظراً للقرب الجغرافي لكوريا الشمالية ومتاخمة العاصمة الجنوبية سيول للحدود مع كوريا الشمالية، وذلك فقط بأسلحة تقليدية مخبئة في أنفاق على الجانب الشمالي، إذ يتوقع عسكريون أن تؤدي إلى مقتل 10 مليون كوري جنوبي في مستهل أي حرب، هذه الوضعية دفعت الولايات المتحدة إلى إلغاء ضربة استباقية لكوريا الشمالية كانت معدة عام 1994.

ليس من السهل أن تقبل كوريا الجنوبية بابتزاز الرئيس ترامب بعد الإنجازات التي حققتها في المجال الاقتصادي

حازم مصري

ومع صعود دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة وتبنيه سياسة أمريكا أولاً، وابتزازه لحلفاء بلاده التقليديين من خلال حثهم على الدفع مقابل الحماية. تدرك كوريا الجنوبية أنها مشمولة بهذه السياسة، بالرغم من الممانعة التي قد تبديها إلى حد ما على عكس حلفاء أمريكا الخليجيين الذين تسابقوا لدفع الهبات المالية الضخمة مقابل الحماية الأمريكية.

 فالازدهار الاقتصادي الذي حققته كوريا الجنوبية جاء نتيجة عرق وكفاح امتد على مدار عقود، وليس من السهل أن تقبل سيول بدفع مبالغ طائلة للحليف الأمريكي الذي يتعرض لنفس التهديد الكوري الشمالي، وبالتالي تعتبر المفاوضات الحالية مع الشمال فرصة لكوريا الجنوبية لتحقيق السلام المفقود في شبه الجزيرة وكذلك التخلص من ابتزازات ترامب المرحلية.

أما الصين، فهي الحليف الأقوى لكوريا الشمالية، وفي ذات الوقت تتمتع بعلاقات طيبة مع كوريا الجنوبية وبمصالح تجارية هائلة مع الولايات المتحدة، فهي تستخدم ورقة كوريا الشمالية لكي تبقى الفاعل الرئيسي في قضايا شرق آسيا، وتحاول بالتوازي مع ذلك تجنيب المنطقة شبح الحرب. فعلاوة على تأثير التجارة العالمية التي تعتبر الصين أكبر مساهم فيها، فإن حدودها مع كوريا الشمالية ستكون المعضلة الأكبر، كونها تتوقع أن تستقبل ملايين النازحين في حال اندلاع أي حرب.

فهذه الجولة من المفاوضات محاولة جديدة لإحلال السلام بدوافع مختلفة لكل طرف، وأكثر ما يبعد الحرب عن المنطقة ويجعل صراع كوريا الشمالية مع الولايات المتحدة غير قابل للمقارنة مع صراع الأخيرة والعراق هو رفض البيئة المجاورة القاطع لأي حرب على كوريا الشمالية بعكس ما حدث في الخليج العربي، غير أن هذا كله لا ينفي بقاء سياسة حافة الهاوية مهيمنة على شبه الجزيرة الكورية، فالجميع يدفع الطرف الأخر لتقديم تنازلات، والجميع أيضاً يخشى أن يؤدي هذا التدافع إلى السقوط في هاوية الحرب.  

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي
TRT عربي
الأكثر تداولاً