تابعنا
تتلاحق الفضائح والشبهات حول بن سلمان، كان آخرها محاولة اغتيال الجبري، الأمر الذي استدعى المحكمة الفيدرالية في واشنطن أن تصدر أمر استدعاء للأمير ولعدد من الأفراد المرتبطين به والمنتمين جميعاً لفرقة الاغتيال.

ما إن تهدأ عاصفة من عواصف محمد بن سلمان حتى تهب أخرى. لم يستفق العالم بعد من الصدمة التي أحدثتها سياسته النفطية التي أدت إلى تهاوي أسعار البترول إلى القيم السالبة من جراء تحديه لروسيا، حتى يعود اليوم، ومن خلال الملفات التي يكشفها سعد الجبري، إلى الواجهة من جديد عندما نعلم أنه بعيد اغتيال جمال خاشقجي وتقطيع أوصاله في قنصلية بلاده في إسطنبول، قام بإرسال فرقة النمر لتنال بنفس الطريقة الوحشية من الجبري، وكأن الفشل والفضيحة التي مُني بها باغتيال خاشقجي لم تكن له رادعاً عن التوقف عن هذا النهج المتهور. هل هو تأثير أفلام الرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية عليه؟ لا نعلم، ولكن يبدو أن تسمية فرقة "النمر" لم تكن محض مصادفة!

مع الوقت تتأكد الحقيقة التي ربما أصبحت واضحة وضوح الشمس، وهي أن معضلة المملكة العربية السعودية الأولى هي سياسة الأمير محمد بن سلمان المتهورة. إنها سياسة ما يوصف بالتحديث، ولكنه التحديث غير المنضبط. إنها سياسة استعجال قطف الثمار حتى قبل أن تينع الأزهار. ففي ظل وجود مجتمع محافظ تربى على كراهة التغيير أو التوجس منه على أقل تقدير، واعتباره بدعة، فإن سياسة التحديث عبر السرعة القصوى من شأنها أن تلقي به من على حافة الهاوية.

يدور الحديث كثيراً حول أن فترة الأشهر القليلة القادمة ستكون حبلى بالمزيد من المفاجآت من الرياض. فهناك أسئلة كبيرة تدور حول إمكانية انتقال الحكم رسمياً إلى الأمير محمد بن سلمان. فإلى حد الآن لا أحد يعلم يقيناً عن صحة الملك سلمان، إذا كان قد غادر الحياة ليُعلن عن تنصيب ولده خلفاً له، أم يعلن تنحيه بسبب المرض، لكي تؤول مقاليد السلطة إلى الأمير الطامح.

كما لا أحد يعلم على وجه التحديد إلى أي حد سترضى المؤسسة الأمريكية عن الأمير الشاب إذا ما غادر الرئيس ترمب البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2021، وهو الذي يعد الداعم الأساسي لبقاء الرجل في السلطة نظراً للعلاقة المميزة التي تجمع أسرة ترمب بأسرة الملك سلمان. صحيح أن الرئيس ترمب قد استاء منه مؤخراً خصوصاً مع حرب أسعار النفط التي أدت إلى خسائر جمّة طالت قطاع الطاقة الأمريكي، إلا أن تخليه عنه تماماً ما زال خياراً غير مطروح، على ما يبدو.

لقد جعلت سياسة محمد بن سلمان المتهورة التنبؤ صعباً بإمكانية توليه منصب الملك أم الإطاحة به عند الرمق الأخير. فقد استطاع خلال فترة قصيرة نسبياً أن يهز الدعائم الأربع التي بني عليها حكم آل سعود لأكثر من قرن. وتتمثل هذه الدعائم بتماسك الأسرة المالكة، وتحالفها مع المشيخة الوهابية، وعائدات النفط، والدعم الغربي خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن احتلت الأخيرة مكانة بريطانيا العظمى في منطقة الخليج.

لقد استطاع بن سلمان أن يحدث شرخاً كبيراً في الدعامة الأولى المتعلقة بالأسرة من خلال حملة الاعتقالات التي طالت كبار أفراد العائلة مثل عمه أحمد بن عبد العزيز، وابن عمه محمد بن نايف، وأقربائه على رأسهم الملياردير الوليد بن طلال وغيرهم. إن حوادث فندق ريتز كارلتون في الرياض شاهد على صفحة في حياة العائلة المالكة لم تكن معهودة من قبل. لم يتخيل أحد من أفراد العائلة المالكة أن يأتي يوم يكونون فيه ممنوعين من السفر حالهم حال المعارضين للنظام.

وكأن العائلة قد هضمت قضية انتقال الملكية من أبناء عبد العزيز إلى أبناء سلمان، حتى يأتي بن سلمان بكل هذه السياسات الاستفزازية لتثير حفيظتهم بشكل ملحوظ. وما تصريحات الأمير أحمد بن عبد العزيز في بريطانيا عندما قال لا توجهوا اللوم إلى عائلة آل سعود بل إلى محمد بن سلمان، إلا تعبير عن نوع التململ الذي يشعر به أفراد الأسرة المالكة.

أما الدعامة الثانية فقد تمثلت في ضرب المشيخة الوهابية من خلال العمل على تحجيمها والانتقال من عصر هيئة الأمر بالمعروف إلى هيئة الترفيه، حتى باتت بلاد الحرمين على موعد مع حفلات راقصة حد المجون على مقربة من الحرم. وفي عام 2018 أعلنت هيئة الترفيه أن المملكة بصدد إنفاق ما يقرب من 64 مليار دولار على الترفيه في السنوات العشر القادمة. وهو رقم مهول بلا شك، وهناك الكثيرون ممَّن يتساءلون عن عدم صرف مبلغ كهذا لتطوير بنية الدولة الصناعة، على سبيل المثال، خصوصاً أن الأمير الشاب قد وعد ضمن خطته 2030 بتنويع الاقتصاد، وأن عام 2020 هو العام الذي ستلغي فيه المملكة عجز الميزانية، وترفع الإيرادات غير النفطية إلى 160 مليار دولار.

لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، فبعض التقديرات في ميزانية عام 2020 تشير إلى نسبة عجز تصل إلى 187 مليار ريال، وهي أعلى بنحو 56 مليار ريال من العجز المسجل في ميزانية هذا العام الذي وصل إلى 131 مليار ريال، أي نحو نسبة 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب وزير المالية السعودي محمد الجدعان الذي أشار إلى أن هذه النسبة جاءت بناء على توقع أن يبلغ الإنفاق الفعلي لعام 2019 1.048 مليار ريال، مقابل إجمالي إيرادات فعلية بنحو 917 مليار ريال.

وتوقعت ميزانية 2020 أن تصل الإيرادات إلى 833 مليار ريال، أي بانخفاض نحو 83 مليار ريال عن توقعات عام 2019 التي تشير إلى أن مبلغ الإيرادات هو 917 مليار ريال، في حين كان إجمالي الإيرادات الفعلي في عام 2018 هو 906 مليارات ريال.

يتزامن هذا مع الدعامة الثالثة التي باتت تشهد تضعضعاً ملفتاً بالفترة الأخيرة وتتمثل بتراجع إيرادات النفط. فبالرغم من التعافي الذي باتت تتمتع به أسعار النفط عالمياً إثر الهزة الكبرى التي تمخضت عنها الخلافات بين السعودية وروسيا وأدت إلى تهاوي أسعاره إلى ما دون الصفر، فإن عائدات النفط ما زالت لا تغطي نصف الاحتياجات المرصودة له في ميزانية المملكة.

لقد تعرضت إيرادات السعودية من النفط مؤخراً لنكسة ثلاثية الأبعاد، والشكر يعود في جزء كبير منها إلى سياسة محمد بن سلمان. فهناك أولاً الهجوم الذي شنته جماعة الحوثي المدعومة من إيران على منشآت أرامكو في منطقة بقيق وهجرة خريص، عبر المُسيرات الانتحارية، وذلك في سياق الحرب الدائرة في اليمن منذ أكثر من خمس سنوات وخلفت مأساة إنسانية فظيعة.

أما ثانياً، فهناك الخلافات بين السعودية وموسكو إثر فشل الاتفاق بين "أوبك" و"أوبك بلاس" على تخفيض الإنتاج، الأمر الذي دعا بن سلمان إلى زيادة إنتاج بلاده من النفط إلى السعة القصوى، وهو ما أغرق الأسواق بالبترول حتى هوت أسعاره إلى القيم السالبة في سابقة تاريخية حيث لم يعد هناك من سعة للتخزين لدى المستوردين، وبات أصحاب العقود الآجلة يبحثون عن أي مشترٍ حتى لو تطلب الأمر أن يدفعوا له مقابل موافقته على الشراء. وأخيراً جاءت جائحة كورونا التي أدت إلى انخفاض ملموس على الطلب على الطاقة عالمياً.

أما آخر هذه الدعائم فهي الدعم الخارجي المتمثل بالموقف الأمريكي. ولا يبدو أن محمد بن سلمان يحظى بدعم قوي داخل دوائر صنع القرار الأمريكية ما عدا البيت الأبيض. ففي يوم الاثنين 10 أغسطس/آب وجهت الحكومة الفيدرالية في واشنطن أمر استدعاء قضائي بحق الأمير محمد بن سلمان على إثر قضية الجبري، وهناك العديد من أعضاء الكونجرس الذين يطالبون بفرض عقوبات على السعودية منها منع تصدير السلاح. هذا فضلاً عن الرأي العام الأمريكي الذي بات يرى في محمد بن سلمان رمزاً للوحشية والفساد. لقد بات المزاج العام في واشنطن يرى أن محمد بن سلمان أصبح يمثل عبئاً على سياسة الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة، ومن هنا بات التساؤل حول احتمالية رفع واشنطن الغطاء عن الأمير الشاب مشروعاً. 

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً