تابعنا
وبينما يتكلم آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، عن استعداد بلاده للحرب لحماية سد النهضة، اتسم الرد المصري بالهدوء وغياب الانفعال في بيان وزارة الخارجية.

كذلك اتفق الطرفان على العودة إلى المفاوضات الفنية في لقاء موسكو، وهو ما يبدو محاولة لتجنُّب التصعيد الكلامي مع إثيوبيا، فيما ظهرت تسريبات أخرى تذهب إلى أن الدبلوماسية المصرية أبدت ضعفاً في كفاءة التعامل مع قضية تتعلق بالأمن القومي.

يعزّز هذا الجدلُ المستمر لسنوات، حول تقييم السياسة المصرية تجاه ضمان الحقوق المكتسبة في مياه النيل، وصار النقاش يكتسب زخماً متصاعداً بسبب سلاسة تنفيذ إثيوبيا لمشروعها المائي الضخم وتصلُّب مفاوضيها دون مراعاة المصالح المصرية.

ونظراً إلى احتجاج إثيوبيا بالسيادة الوطنية وعدم اعترافها باتفاقيتَي نهر النيل (1929و1959)، حاولت مصر بناء موقف مشترك مع السودان، غير أن الحملات الإعلامية أضفت صعوبات أمام السياسة المصرية لكسب تأييد السودان على المستويين السياسي والفني، كما يساهم تراجع الدور المصري في ترتيبات ما بعد البشير في زيادة الدور الإثيوبي في السودان. وإذا تُركَت هذه الأمور دون تصحيح ومراجعة، فسوف يضعف موقف مصر التفاوضي.

واقعيّاً، بمرور الوقت تَحوَّل الخلاف حول سد النهضة إلى موضوع ثنائي بين مصر وإثيوبيا، ولا يرجع ذلك إلى غياب الانسجام في العلاقة مع السودان، لكنه يرتبط في الأساس بعدم قدرة الطرف المصري على تقديم حزمة مصالح مشتركة تُغرِي السودان بتعديل موقفه، أو تدفع دول حوض النيل إلى التوسُّط في الخلاف مع إثيوبيا.

شهد الإطار القانوني لنهر النيل تطورات، على مدى ما يقرب من مئة عام، أدّت إلأى حصول مصر علي حقوق مكتسبة، تتمثل في عدم قيام أي دولة بأعمال علي النهر دون الإخطار المسبق للقاهرة، وضمان وصول حصة تبلغ 48 مليار متر مكعَّب، غير أنه مع ظهور مبادرة حوض النيل ظهرت مبادئ قانونية أخرى تنادي بالمصالح والاستفادة المشتركة، وترفض فكرة الحقوق المكتسبة. لذلك شكلت مبادرة "عنتيبي" 2010 تحدِّياً جديداً للسياسة المصرية.

وحتى ظهور مشكلة سد النهضة، ظلت الحكومات ذات العلاقة أسيرة الأطر الثنائية أو الثلاثية، ولم تُبدِ عزمها على اللجوء إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الخاصة بالمجاري المائية، ما يثير الالتباس حول أداء السياسة الخارجية.

فالميراث القانوني والسياسي لنهر النيل يشير إلى ارتباط الحقوق المائية كحقوق ارتفاق، ومن هذه الوجهة تماثل اتفاقيات المياه اتفاقيات الحدود. وبالنظر إلى تطور الأوضاع السياسية لنهر النيل يلاحَظ أن بين التغيُّر في الأوضاع السياسية وتغير الأوضاع المتعلقة بنهر النيل علاقة ارتباطية، ويتضح ذلك بشكل خاصّ في تغير السيطرة على منابع النيل، والقوى المهيمنة على النيل الأزرق.

فمع تعدُّد الأطراف، سواء بسبب الاستعمار أو استقلال الدول، ظهرت عدة اتفاقيات لتنظيم استخدام مياه النيل، كان أهمها اتفاقية 1902واتفاقية 1929، والاتفاقية الثنائية بين مصر والسودان عام 1959. هذه الاتفاقيات كانت تالية لتغير الحدود السياسية، وهو ما يجعلها قرينة السيادة الوطنية، لذلك تكتسب فكرة الحقوق المكتسبة وجاهتها كمبدأ قانوني في العلاقات الدولية.

يعد خطاب حكومة هشام قنديل في مجلس الشورى ولقاء الرئيس السابق محمد مرسي الأحزاب السياسية، مناقضاً لورقة تعيين مكان سدّ النهضة، فرغم توقيعها في اللجنة الثلاثية في نهاية مايو 2013، كانت المواقف اللاحقة للحكومة تعمل بتناقض واضح، فرغم التوقيع ذهبت تعلن المواقف الحادَّة ضدَّ السياسة الإثيوبية.

لم يكن هناك إدراك أن مجرد التوقيع يسمح بإضفاء الصفة القانونية على الأعمال الإثيوبية على مجرى النهر الذي تم تحويل مجراه في27 مايو 2013. ويمكن تفسير انعقاد اجتماع الرئيس مع الأحزاب السياسية، على الرغم من توقيع ورقة التفاهم، بأنه يعكس مرور الحكومة بحالة ترنُّح وعدم إدراك طبيعة المسارات القانونية الدولية ومدى إلزاميتها، وهو ما يرجع إلى الأزمات التي مرت بها الدولة.

لا يشكّل "إعلان المبادئ" عقبة في حد ذاته، فهو من الناحية القانونية يتماشى مع المبادئ العامة من حيث النص على مبادئ حسن النية وعدم "الضرر ذي الشأن" والتفاوض، وذلك باستثناء قيد الإجماع في قبول وساطة أطراف أخرى.

يرتبط ضعف الاتفاق بعوامل تخرج عن النص القانوني، يأتي في مقدمتها غياب الإسناد السياسي والتحركات الدبلوماسية المناسبة، وحشد طاقة الدولة للوقوف وراء المطالب المصرية، فمنذ توقيع الاتفاق ظلّت المفاوضات تدور في حلقة مفرغة ومنعزلة عن اعتداد إثيوبيا بحقوقها السيادية، ورفض حقّ التدخل أو الرقابة على أعمال تشييد السد. من هذه الوجهة سارت السياسة المصرية، بتباطؤ واضح، نحو إطلاق يد إثيوبيا بحيث هيمن المسار الفني، فيما تراجع الطابع السياسي للمشكلة.

ما يثير التساؤل والجدل هو لماذا لم تستخدم مصر كل الأوراق القانونية في وقت تتمسك فيه إثيوبيا بالسيادة الوطنية.

لعل مناقشة هذه المسألة توضّح جوانب من السياسة المصرية. خلال ما يقرب من ثماني سنوات تَعرَّضت فيها المؤسسات المصرية لتقلبات كثيرة، بحيث يمكن ملاحظة أن تشكيل الحكومات وانهيارها كان ظاهرة موسمية. دفعت هذه التقلبات باتجاه تبنِّي سياسة دفاعية للحفاظ على الذات وترتيب الشؤون الداخليةعلى حساب الخارجية، إذ شهدت مصر حزمة من المشكلات الأمنية والاقتصادية. ففي فترة مرسي مثلاً كانت في صنع القرارات الخارجية حالة تفكك ملحوظة، فمن جهة لم يستطع مرسي، خلال فترته القصيرة، السيطرة على القرار السياسي، فيما اتجه السيسي إلى التفاوض الفني كخيار استراتيجي.

كذلك وضع انهيار الأمن الإقليمي مصر أمام مشكلات أمنية وعسكرية، وتحولت مزايا الموقع إلى عبء استراتيجي. فمن جهة تقع تحت التحدي الإثيوبي لحقوقها المائية في نهر النيل، ومن جهة أخرى تنحدر التهديدات الأمنية من الغرب والشمال الشرقي.

بشكل عامّ، لقيت التهديدات الجنوبية إهمالاً من مخطِّطي السياسة على مدى العقود الماضية، ورغم أهمية العودة إلى الساحة الإفريقية، فإن تأثيرها في تقليل الآثار السلبية لمشكلات المياه ما زال بعيداً، فالتراجع المصري في العقود الماضية خلق فجوة مع التغيرات التي شهدتها بلدان حوض النيل وشبكة علاقاتها الجديدة.

يمكن وصف الموقف المصري بأنه متواضع من ناحية توظيف الإمكانات الدبلوماسية، فقد استمرت السياسة المصرية واقفة في حالة انتظار لما تُسفِر عنه المباحثات الفنية. وهنا يصعب اعتبار عدم ملاءمة البيئة الداخلية أو الخارجية كحتمية أو قيود سياسية أمام صانع القرار، ولا يُعتدّ بها كمبرّر للتخلي عن الفرص والأوراق القانونية. فالميراث السياسي لمصر يمكنه سدّ القصور في أداء السياسة الخارجية.

غير أنه بالرجوع إلى البيانات والتصريحات الرسمية، يتضح أنها تحمل طابعاً ودّياً رغم حدة الخطاب الإثيوبي، إذ تشير إلى الطبيعة السلسة لتطوُّر التعاون بين البلدين. هذا التوجه يكون إيجابياً، فقط، في حالة وجود استراتيجية واسعة للعلاقة مع الدول الإفريقية تساعد على خلق بيئة للتكامل في حوض النيل، وهي حالة لم تتمكن مصر من بنائها على مدى العقود الماضية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً