تابعنا
يعد توافر المياه والحصول عليها والقدرة على تحمل تكلفتها من المشكلات العويصة للفقراء والمعرضين للأزمات، بينما يجري جني أرباح بمليارات الدولارات من هذا القطاع.

عندما كنت طفلاً في الهند كانت وظيفتي إحضار الماء لأي زائر وأي شخص يدق جرس الباب ويطلب شراباً. كما جرى ربطي أيضاً بمخطط جدتي الحبيبة لتقديم الماء لترطيب العمال الكادحين على طرق الأحياء السكنية والمباني تحت أشعة الشمس الحارقة. عند وفاتها كان من الطبيعي إنشاء سبيل ماء عامة تكريماً لها.

وهكذا علمت أن الماء مادة مقدسة لا مجرد حق من حقوق الإنسان. تعود رمزية الماء إلى آلاف السنين، حيث اعتبر الفلاسفة اليونانيون الماء روحاً سائلة أساسية في الجسد، يسبب عدم توازنها المرض. تعتبر معظم الأديان الرئيسية الماء مطهراً في طقوس التبرك وفي طقوس غسل الموتى.

تدور المعتقدات القديمة حول فكرة أن الماء هو هدية إلهية تدعمها الأدلة الجيولوجية على أن الأرض قد تلقت غالبية مياهها منذ ما يقرب من أربعة مليارات سنة نتيجة لتأثيرات نيزكية. من المحتمل أن يكون الباقي قد نشأ من باطن الأرض. وحالت الجاذبية دون تسرب الماء إلى الفضاء.

وهكذا تراكم مخزون كوكبي يبلغ نحو 1.3 مليون كيلومتر مكعب من المياه، يحتوي كل كيلومتر مكعب على تريليون لتر. على الرغم من أن هذه كمية كبيرة بشكل لا يمكن تصوره، فإن الماء مورد شحيح. فنحو 96% من هذه المياه تتركز في المحيطات وهي مياه مالحة حيث تغطي 71% من سطح الأرض.

68% من المياه المتبقية موجودة في الأنهار الجليدية في حين أن 30% منها موجود في أعماق الأرض. نحن نعتمد على دورة هيدرولوجية تتكون من التبخر، والتكثيف، والتساقط، والاعتراض، والتسلل، والترشيح، لتوفير نسبة 1% من إجمالي المياه الأرضية الصالحة للاستخدام في الحياة اليومية.

لكن ارتفاع درجات الحرارة بسبب تغير المناخ يؤدي إلى استنفاد الأنهار الجليدية. يتسبب التدمير البيئي، الذي أدى إلى فقدان ثلث غاباتنا و85% من الأراضي الرطبة، في تعطيل دورة المياه بمعدل ينذر بالخطر. في الوقت نفسه، فإن عدد سكان الأرض المتزايد، البالغ الآن 8 مليارات، يؤدي إلى الحفر في أعماق الأرض للحصول على المياه الجوفية بمعدلات أسرع من معدلات تجديدها.

وفق الاتجاهات السائدة، لا مفر من أزمة المياه. بحلول عام 2025، سيعيش نصف سكان العالم في مناطق تعاني من الإجهاد المائي، وبحلول نهاية العقد، سيتجاوز الطلب على المياه العذبة العرض بنسبة 40%. أصبح هدف التنمية المستدامة 6، الذي يعد بمياه الشرب المأمونة والميسورة التكلفة للجميع، بعيد المنال بشكل متزايد. ولأن المياه ضرورية أيضاً لأهداف التنمية المستدامة الستة عشر الأخرى، فإن التأثيرات على الأهداف الإنمائية ستكون أكبر من ذلك بكثير.

لقد عاشت البشرية مثل هذا الأمر سابقاً. لطالما ازدهرت الحضارات أو اندثرت حول المياه. نشأت أعظمها حول أنهار النيل، والسند، والفرات، ودجلة، أو انهارت عندما نفدت المياه، كما حدث في القرن الثاني عشر قبل الميلاد للحضارة الحثية في تركيا، وحضارة المايا في القرن التاسع، وحضارة الخمير في القرن الخامس عشر، وحضارة مينغ الصينية في القرن السابع. لم تكن هذه الانهيارات مفاجئة ولكنها تكشفت على مدى قرون مع انخفاضات تدريجية للمياه تخللتها كوارث وحروب مأساوية.

لا تقتصر النزاعات حول المياه على الزمن الماضي. ففي الوقت الحالي تلوح في الأفق نزاعات من هذا القبيل أيضاً. أثار سد النهضة الإثيوبي الضخم التوترات بين السودان ومصر، كما يصاحب جفاف بحيرة تشاد صعود في مستوى الإرهاب وانعدام الأمن. تعتبر ندرة المياه دافعاً لنزوح السكان إذ تساهم بنسبة 10% من تدفقات الهجرة القسرية، والتي تجاوزت 100 مليون في العام الماضي.

انهيارات اليوم تحدث بالفعل، والفرق بينها وبين ما حدث في الماضي تاريخياً هو أن عدم المساواة في الوصول إلى المياه والأزمات الناتجة عنها أصبحت منتشرة على نطاق واسع. أكثر من ثلاثة أرباع الكوارث الكبرى البالغ عددها 387 العام الماضي كانت بسبب كثرة المياه أو شحها.مثلاً أثرت فيضانات باكستان على 33 مليون شخص، في حين أثرت الرياح الموسمية في بنغلاديش على 7 ملايين، وأثرت العواصف الاستوائية في الفلبين على أكثر من 3 ملايين شخص.

وفي غضون ذلك، أدى العام الرابع من الجفاف في الصومال إلى وفاة 43 ألف شخص، بينما واجه 1.2 مليون من سكان المناطق الحضرية من جنوب إفريقيا مخاطر فادحة عندما جفت المياه في الصنابير. القارة الإفريقية هي الأكثر إجهاداً للمياه، حيث يعاني واحد من كل ثلاثة أفارقة من شح المياه، بما في ذلك الملايين الذين يمشون أكثر من نصف ساعة لجلب المياه أو ينفقون أكثر من 25% من دخلهم لشرائها.

على صعيد آخر، فإن الكفاية والجودة متفاوتان. يشكل الماء 60% من أجسامنا ويجب أن نستهلك 2-4 لترات للبقاء بصحة جيدة، اعتماداً على مستوى النشاط ودرجة الحرارة المحيطة. وضعت منظمة الصحة العالمية معايير لمياه الشرب، تحدد المستويات القصوى المسموح بها من الميكروبات والملوثات الكيميائية.

40% من مصادر المياه المشاعية في العالم، مثل البحيرات والأنهار وخزانات المياه الجوفية، لا توفي بهذه المعايير أو لا تخضع للمراقبة. ولذلك، يموت 3.5 مليون شخص سنوياً بسبب الأمراض المرتبطة بالمياه. في الوقت الحالي على سبيل المثال، بينما تتعافى ملاوي من الإعصار، فإنها تعاني أيضاً من تفشي الكوليرا.

أتذكر أنني شاهدت 50 ألف رواندي يفرون من الإبادة الجماعية عام 1994 ليموتوا بدلاً من ذلك بسبب الكوليرا في جمهورية الكونغو الديمقراطية. على الرغم من وفرة المياه في بحيرة كيفو القريبة، كانت معالجة المياه وتوصيلها بالأنابيب مهمة صعبة. يجد مليون لاجئ من الروهينغيا الشيء نفسه اليوم في بنغلاديش التي يناضل 20 مليون من سكانها ضد أكبر تسمم جماعي في العالم لأن مياههم ملوثة بشكل طبيعي بالزرنيخ.

على الرغم من المشكلات التي لا تعد ولا تحصى، يسعى العالم جاهداً لزيادة إنتاج المياه الصالحة للشرب، وتحسين كفاءة النقل والاستخدام. تعمل الدول الغنية على إزالة الملوحة ولكن هذا يتطلب طاقة كبيرة. وفي الوقت نفسه، يُفقد 45 مليون متر مكعب يومياً من خلال الأنابيب المكسورة. على سبيل المثال، تخسر إسبانيا 28% من جميع المياه المنقولة بالأنابيب من خلال التسريب. توجد تقنيات جديدة للكشف عن التسرب مثل الأقمار الصناعية والروبوتات داخل الأنابيب في طريقها للاستخدام، في حين أصبحت حلول تخزين المياه -تجميع مياه الأمطار أو الفيضانات- شائعة الاستخدام.

تُستخدم معظم المياه العذبة في أنظمة الغذاء: إنتاج النظام الغذائي اليومي للشخص العادي يحتاج إلى 2000-5000 لتر من الماء. يحاول المزارعون ابتكار أنواع من المحاصيل التي تحتاج إلى كميات أقل من المياه واستخدام الري بالتنقيط. لذلك، يعد تغيير النظام الغذائي منطقياً لأن كيلوغراماً واحداً من اللحم البقري يستهلك 15000 لتر بينما يتطلب كيلو القمح 1500 لتر.

في السياق ذاته، يستهلك الاستخدام الصناعي 17% من المياه العذبة في العالم. يعد الابتكار هو العمل الشاق هنا. كان الأمر يتطلب 10 آلاف لتر لصنع زوج من الجينز، لكن مع الوقت قلت هذه الكمية لتصل إلى 1000 لتر. تعتبر عملية إعادة التدوير الفعالة هي المفتاح في التصدي لأزمة شح المياه، وكذلك توجد حاجة إلى تغيير نمط الحياة التي تقلل من إهدار المياه ودفق المراحيض والاستحمام وغسيل الجينز!

يقدر البنك الدولي أن توفير المياه الصالحة للشرب للجميع بحلول عام 2030 قد تكلف نحو 25 مليار دولار سنوياً. أي ما يبلغ 0.1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي مع عائد اقتصادي قدره 4 دولارات لكل دولار يجري استثماره. هذا أمر لا يحتاج إلى كثير من التفكير.

لكن هل سنفعل هذا الأمر؟ المؤشرات السياسية ليست مواتية. في عالم تُعقد فيه المؤتمرات الدولية على الفور، استغرق الأمر 46 عاماً لعقد مؤتمر الأمم المتحدة للمياه هذا الأسبوع في نيويورك، منذ آخر مؤتمر عُقد في الأرجنتين في 1977.

على الرغم من أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 أرسى الحق في الحياة والصحة والرفاهية، فإنه لم يذكر الماء. ربما اعتقد واضعو الصياغة أن من غير الضروري ذكر هذا الشرط الواضح والأساسي للحياة؟ استغرق الأمر ستة عقود أخرى حتى عام 2010 للاعتراف بالمياه كحق أساسي من حقوق الإنسان بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 64/292. حتى هذا الأمر لم يأتِ بأغلبية الأصوات حيث امتنعت 41 دولة مهمة مثل أستراليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة عن التصويت.

على الرغم من أن هذا كان لأسباب إجرائية غامضة، فإنه كشف عن انقسامات عميقة حول حالة المياه كسلعة عامة مشتركة أو كسلعة يجري تداولها من أجل الربح. إن خصخصة هبة مجانية من قبل الطبيعة وإخضاعها لمصالح الشركات الربحية أمر مقلق من الناحية الأخلاقية. في المقابل يجادل مؤيدو السوق بأن هذا ضروري لجلب الاستثمار المطلوب إلى القطاع وضمان التسعير الصحيح لتحسين استخدام الموارد النادرة للمياه.

يعكس الجدل الدائر إلى حد ما النقاش حول الطاقة في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية أو الجدل الأخير حول الوصول إلى لقاحات Covid-19. في هذه الأثناء يعد توافر المياه والحصول عليها والقدرة على تحمل تكلفتها من المشكلات الحادة بشكل متزايد، لا سيما للفقراء والضعفاء في أثناء الأزمات، في حين تُجني مليارات الدولارات من الأرباح من هذا القطاع.

تعني الجغرافيا السياسية المتصدعة السائدة حالياً أنه لا توجد إدارة عالمية للمياه وأن جدول أعمال مؤتمر الأمم المتحدة للمياه يتجنب المناقشات السياسية الجادة بينما يوجه نداءات غير مقنعة لمزيد من المساعدات المائية.

المفارقة هي أنه بينما يجري استبدال النفط بمصادر الطاقة المتجددة، فإن الماء -المورد المتجدد النهائي- يتحول إلى نفط جديد، مما يجلب معه هذا التحول من تعقيدات صعبة بنفس القدر.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً