وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول (AP)
تابعنا

أثار موت وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول قبل عدة أيام موجة من ردود الأفعال المتناقضة بين أولئك الذين امتدحوا مسيرته المهنية التي سطر فيها واحداً من أبرز الإنجازات خصوصاً للسود، إذ كان أول قائد من ذوي البشرة السمراء للجيش الأمريكي، وأول وزير خارجية أمريكي أسود، وأولئك الذين انتقدوا دوره في غزو العراق خصوصاً في ظل مداخلته ذائعة الصيت في الأمم المتحدة التي حاول فيها تضخيم المعلومات الاستخباراتية حول برنامج العراق للدمار الشامل، من أجل حشد دعم دولي للحرب على العراق وإسقاط نظام صدام حسين، التي تَبيَّن لاحقاً أنها محض كذب.

بالنسبة إلينا نحن أبناء الجنوب، أو أبناء العالم الثالث، أو أيّاً من هذه التصنيفات المتحيزة، فإننا لا نرى في الرجل تلك الجدلية التي حظي بها في الغرب أو في الأوساط الأمريكية على وجه التحديد. فكونه أول رجل أسود يتولى أعلى المواقع الدبلوماسية في بلاده فهذا شيء لا يعنينا ولا يمثل لدينا أي استثناء، خصوصاً أن لون البشرة في ثقافتنا لا يحظى بهذا التحيز الذي يحظى به في الغرب.

مع ذلك فإن موت الرجل أيقظ فينا الكثير من الأوجاع والآلام، فقد كان واحداً من أبرز قيادات تيار المحافظين الجدد، الذي جرّت سياسته في المنطقة الكثير من الويلات على أبنائها. وربما من باب المصادفة أن يكون موت الرجل بُعيد أيام فقط من مغادرة قوات بلاده أفغانستان في صورة مُذِلَّة لأعتى قوة عسكرية في العالم بعد أن خاضت هناك حرباً امتدت لعشرين عاماً لم تفلح فيها الولايات المتحدة في تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية ما عدا اغتيال زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وهو الهدف الذي كان ممكناً تحقيقه من غير شنّ حرب شاملة على بلد بأكمله.

بطبيعة الحال لا يكفي تذكُّر مساوئ الرجل والاكتفاء بذلك وحسب، خصوصاً في ظلّ الانقلاب الذي نشهده في موازين القوى العالمية على أثر الانسحاب التاريخي للولايات المتحدة من أفغانستان. فالأمر لا يتعلق بموت رجل، وإنما بعقيدة عسكرية لقوة عظمى ما فتئت تتخبط منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، وهو تخبُّط جرّ على الولايات المتحدة والعالَم حالة من عدم الاستقرار المزمنة والتي تهدّد استمرار مسلسل النزاعات والحروب بما يهدّد السلم العالمي.

فالرجل لا تُنسَب إليه فقط تلك الفضيحة في الأمم المتحدة، فهناك أيضا عقيدة عسكرية تُنسَب إليه تُسمَّى عقيدة "كولن باول" أخذت زخمها طوال تسعينيات القرن العشرين تقريباً. كان كولن باول من الجنود الذين شهدوا من قُربٍ مأساة بلادهم في حرب في فيتنام، ولذلك استطاع أن يصوغ عقيدة عسكرية تدعو إلى تقييد استخدام القوة العسكرية، وفي حال لزم الأمر يجب أن يكون استخدامها محدَّداً في حالات يكون فيها الأمن القومي الأمريكي مهدَّداً بشكل مباشر. بعبارة أخرى، لا ينبغي للولايات المتحدة أن تدخل في صراع ما لم تكن للولايات المتحدة مصلحة حيوية، بحيث يكون هناك هدف واضح، وتقييم محدَّد للمخاطر والتكاليف، مع وجود استراتيجية واضحة للخروج.

كان التطبيق العملي الأول لهذه العقيدة في حرب العراق الأولى على أثر احتلال الكويت، فقد كانت العملية خاطفة، ومحدودة، وواضحة الهدف وتتمثل بإخراج القوات العراقية من الكويت، وتأمين حقول النفط، والمحافظة على تدفقات الطاقة للأسواق العالمية. في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة والغرب عموماً على وعي كامل بما يعنيه أن تتوقف إمدادات الطاقة من دول الخليج، فما زالت أزمة النفط في بداية السبعينيات ماثلة للعيان. ومن الأدلة على أن واشنطن لم تنسَقْ وراء قوتها المفرطة امتناعها عن اللحاق بالقوات العراقية المنسحبة إلى بغداد، وبالتالي إسقاط نظام صدام حسين حينها.

تعرضت هذه العقيدة للتراجع، وإن لم تنهَرْ، مع مغادرة إدارة الرئيس بوش الأب البيت الأبيض. فصقور إدارة بيل كلينتون التي حلّت مكانها كانت تجادل بأن امتلاك الولايات المتحدة فائض القوة العسكرية هذا من غير استخدامه سوف يقوّض صورة الولايات المتحدة كقائدة للنظام العالمي الجديد، والقوة "التي لا غنى عنها". وبذلك اندفعت الولايات المتحدة لاستخدام فائض القوة هذا لممارسة دور شرطي العالم، وراحت، وفق تعبير أمين معلوف، "تقفز من حرب إلى أخرى دون مرور بمراحل انتقالية كما لو أن الأمر بات نهج حكم لسلطة شمولية بدلاً من أن يكون (استخدام القوة العسكرية) وسيلة أخيرة".

بعد ذلك جاءت المغامرة الفاشلة في الصومال خلال 1992-1993 ثم التدخل في هايتي سنة 1994 لتنصيب الرئيس جان-برتران أريستيد في الحكم، ثم حرب البوسنة سنة 1995، ثم في ديسمبر/كانون الأول 1998، وحملة الغارات الجوية الكثيفة على العراق التي سُمّيَت "عملية ثعلب الصحراء"، ثم حرب كوسوفو سنة 1999، وابتداءً من سنة 2001، حرب أفغانستان، ثم حرب العراق في عام 2003، وسنة 2004 حملة عسكرية جديدة على هايتي لخلع الرئيس أريستيد هذه المرة، وليس أخيراً، التدخل في ليبيا عام 2013، ولاحقاً في سوريا.

ومن سخرية الأقدار أن يكون كولن باول هو نفسه من وضع المسمار الأخير في نعش عقيدته العسكرية. ففي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، بدا أنه تَقبَّل فكرة أن أفكاره لم تعُد مناسبة للحظة الزمنية التي وجدت الولايات المتحدة نفسها فيها. وكما قالت الإيكونوميست في يناير/كانون الثاني 2003: "يوجد بعض الأدلة على أن باول تَخلَّى عن عقيدته، ويُعزى ذلك إلى ظهور تهديد أسلحة الدمار الشامل في أيدي ديكتاتوريين أو إرهابيين لا يمكن التنبؤ بهم". بلا شك غيرت هجمات الحادي عشر من سبتمبر العالم، وحتى كولن باول بدا أنه فقد الثقة بـ"فكرة الحروب النظيفة والفعالة التي تركز على المصلحة الوطنية. فبعد أسبوعين من الهجمات، ذهب باول إلى مجلس الأمن الدولي وخاض نقاشاً صارماً لصالح الحرب في العراق".

كانت لحظة نسيت فيها الولايات المتحدة عقدتها الفيتنامية، وإن كان هناك من وجد مبرراً لصالح الأمن القومي الأمريكي في غزو أفغانستان وإسقاط نظام طالبان، فإن هذا المبرر ينتفي تماماً في غزو العراق، إذ لم يكُن نظام صدام حسين في ذلك الوقت يمثّل أي تهديد للمصالح الأمريكية الحيوية، خصوصاً بعد أن أنهكت العراقَ عشرُ سنوات من الحصار الصارم.

لم تفلح الولايات المتحدة من خلال استخدام فائض القوة العسكرية لديها في تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وما جرى أخيراً هو الموسم الثاني من الكابوس الفيتنامي، ولكن هذه المرة وفق النسخة الأفغانية، وهو ما دفع الرئيس بايدن إلى البحث في الملفات القديمة لكي يعيد إلى عقيدة باول العسكرية اعتبارها من جديد. فبُعيد الانسحاب من أفغانستان أوضح الرئيس بايدن عدداً من الدروس المستفادة من عقدين من الحرب في أفغانستان: أولاً يجب أن تحدّد الولايات المتحدة المهامّ ذات الأهداف الواضحة والقابلة للتطبيق، وثانياً أن ينصبّ تركيز الولايات المتحدة على المصلحة الأساسية للأمن القومي.

ويبقى الرهان على ما إذا كانت قوة عظمى كالولايات المتحدة وتملك فائض القوة العسكرية هذا قادرة على الحفاظ على رباطة جأشها والاستفادة من تجاربها تجاه عدم تكرار ذات الأخطاء، أم يعتريها النسيان قريباً وتندفع إلى مغامرة جديدة يكون وقودها الكثير من الدماء والأرواح.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً