تابعنا
في المغرب على سبيل المثال، وفي عز "العملية التجميلية" التي مُورِست أخيرا في حق "حكومة سعد الدين العثماني"، انكشف "موت السياسة" وعودة "التكنوقراط" للاستحواذ على أهم القطاعات قوة وفاعلية، مثلما لاح "الفقر الإيديولوجي" الذي باتت تعانيه الأحزاب السياسية.

الواقع يدعونا في كثير من الأحايين إلى اعتناق اليأس، واستشعار اللامعنى واللاجدوى من النضال لأجل كتابة أفق إنساني جديد، نتنفس فيه الحرية والكرامة والديمقراطية. فما نُعايِنه ونُعانِيه من "بؤس سياسي" ومن "نعي" متواصل للإيديولوجيا، و"احتفاء" غرائبي باللاتسيس والحيادية الفجة، لا يمكن أن يفهم من ورائه، سوى أن هناك رغبة أكيدة لدى صناع القرار العربي، في "قتل" السياسة وتمريغ "كرامة" مُحترفيها أرضا.

في المغرب، وفي عز "العملية التجميلية" التي مُورِست أخيرا في حق "حكومة سعد الدين العثماني"، انكشف "موت السياسة" وعودة "التكنوقراط" للاستحواذ على أهم القطاعات قوة وفاعلية، مثلما لاح "الفقر الإيديولوجي" الذي باتت تعانيه الأحزاب السياسية، وأن ما يجمع الكثير من المنتسبين إليها هو الرغبة الجامحة في الاستوزار والإفادة من الكعكة لا غير.

لقد كانت أحداث التراشق بالصحون والكراسي والتنابز بالألقاب والكلام الساقط، والتي عرفها المغرب خلال الأيام القليلة الماضية، كانت كافية لإعادة تركيب صورة ملتبسة ومؤلمة عن "حقيقة" النخبة السياسية التي تتحكم في اللعبة، فلم تَخْلُ مقرات الأحزاب، قبل وبعد الإعلان عن النسخة الجديدة من الحكومة، من مشادات ومشاحنات وتبادل للضرب والجرح، في انتقال واضح من سجل صراع الأفكار والخطوط الإيديولوجية إلى سجل العودة إلى الحيوانية وحرب الجميع ضد الجميع.

ثمة اتجاه في العالم اليوم يتحدد في الانتصار لخطاب النهايات والتوكيد على نهاية الإيديولوجيا ونهاية السياسة وهو الاتجاه الذي تدعمه الليبرالية المتوحشة.

عبد الرحيم العطري

ثمة اتجاه في العالم اليوم يتحدد في الانتصار لخطاب النهايات، والتوكيد على نهاية الإيديولوجيا ونهاية السياسة، وهو الاتجاه الذي تدعمه الليبرالية المتوحشة، دفاعا عن مصالحها الاقتصادية التي تبدو في حِلٍّ من أي التزام اجتماعي أو مرجعية فكرية وإنسية، ولهذا تعمل الأنظمة التي "تَدِينُ" علنا أو إضمارا بهذا التوجه، إلى الإعلاء من "فارقية" التكنوقراط، والعمل باستمرار على تبخيس السياسة والحد من فاعليتها المجتمعية.

ففي كل البلاد العربية، نلاحظ كيف يتم الاحتفاء بما يسمى "الكفاءات التقنوقراطية" المستقلة، وكيف يتم العمل باستمرار، على تشويه صورة "الكفاءات الحزبية" الملتزمة، في اتجاه بناء محور للخير والنماء، يتحدد في "اللاتسيس"، ومحور ثان للشر، مفتوح على الحزبي والإيديولوجي، فلا يُراد من وراء ذلك كله سوى تأبيد الاستبداد وكبح احتمالات التغيير.

جدير بالذكر أن عمليات "الشفط" و"التجميل" التي تتعرض لها الحكومات العربية من حين لآخر، وقبل أن تنهي "ولايتها الرسمية"، تُبَرَّرُ في الغالب على أساس أنها ضرورية ومصيرية، وأنها تروم ضخ دماء جديدة، دفاعا عن الكفاءة والفعالية، ولكنها في الواقع العربي، لا تبتعد عن منطق الترضيات وجبر الخواطر، وهدر الزمن السياسي، والدفع بالأزمة إلى الأمام. 

إذ يبدو الأمر وكأنه يتعلق بمحاولة لإلهاء الرأي العام، وإشغاله بتعديل لن يقود في الختام لا إلى التقليص من الفوارق الاجتماعية الصارخة، ولا إلى تخليص الشباب وغيرهم من معضلة البطالة، ولن ينهي مسيرات العطش وقوارب الموت وفظاعة التهميش والإقصاء، فما يضير ذلك المواطن المغلوب على أمره أن يصير فلان أو علان وزيرا؟

في كل البلاد العربية نلاحظ كيف يتم الاحتفاء بما يسمى الكفاءات التقنوقراطية المستقلة وكيف يتم العمل باستمرار، على تشويه صورة الكفاءات الحزبية.

عبد الرحيم العطري

أصل الحكاية أنه لا مناص من إطلاق إشارات لامتصاص غضب الشباب، و"تدبير الأزمة" ولو إلى حين، ذلك أن "مساحة اللعب" المتاحة تبقى محدودة ومُسَيَّجَةً برهانات الدولة العميقة والسلطات اللامرئية، وأن الحكومة في النهاية، وفي مكونها الحزبي تحديدا، لن تكون سوى شماعة تعلق عليها الأخطاء السياسية وكافة الإخفاقات التنموية.

لقد تأكدت الأغلبية الصامتة والساخطة في العالم العربي، ألا تغيير يأتي من حكومات لا تحكم، ولا يمكن التعويل عليها في إحداث الطفرة المأمولة. كما أنها تعي جيدا أن الانتخابات لا تصنع تغييرا في الواقع، ذلك أن الصناديق الزجاجية التي تأوي أصوات الناخبين لا يمكنها بالمرة أن تغير من واقع الحال، بل على العكس من ذلك إنها تساهم في شرعنة القائم من الأوضاع وضمان استمرارية نفس الشريط السياسي، فقط يختلف الشكل ويستمر الجوهر. 

طبعا لا بد من الاعتراف بأن الأحزاب ذاتها تتحمل مسؤولية الوضع الذي انتهت إليه الممارسة السياسية هنا والآن، فالنخب الحزبية، وفي مقاطع كبرى منها، تعبر عن عقل سياسي معطوب، ولا تعبر كثيرا عن الالتزام الإيديولوجي، وتكشف تحركاتها نوعا من الفقر السياسي والافتقار إلى المبادرة والإبداع الحزبي.

فالحدود الإيديولوجية تظل غير ذات معنى في الساحة السياسية العربية، والانتقال من حزب إلى آخر لا يمكن أن تنجم عنه أية أزمة سياسية ولا يمكن أن يثير أي مشكل، الشيء الذي يجعل من الترحال الحزبي عند كل دخول سياسي الحدث الأبرز، وهو ما يكشف افتقاد النخب الحزبية للمناعة السياسية و خضوعها للإملاءات واشتغالها بمنطق الانتفاع والمصلحة، ما يجعلها مسؤولة بمقدار ما عن "قتل السياسة" و تجذير أفق اللاتسيس.

إن إلغاء الصوت المخالف من بنية السياسة، يساهم في قتلها لا محالة، حيث يَخْفُتُ لدى المواطن مستوى الانهمام بما يحدث في البرلمان والحكومة والرئاسة، فلا هم له سوى تحصيل خبزه المُرِّ، تاركا للنخب المخملية الجمل بما حمل. والحال أن الأنظمة العربية نجحت، وإلى حد بعيد، في اغتيال المعنى النبيل للسياسة، عبر تحويلها إلى فضاء للعب والتلاعب بالعقول والمصائر.

وطبعا فالمستفيد الأكثر من تزييف الفعل السياسي وتحييده، هو النظام الاستبدادي، الذي يسعى دوما إلى إلغاء كل منافسة أو مزاحمة محتملة لإفاداته من حاصل التسلط والتحكم في المجال والإنسان، حيث لا يُطلب من الأحزاب، في ظل هذا النظام، إلا أن تؤدي دور الكومبارس، وأن تنفذ ما يطلب منها من غير زيادة أو نقصان، فلا حق لها في تجاوز حدود الأدوار المرسومة قبلا، ولا في المطالبة بتغيير الوضع المأزوم، فقط تنحصر مهمتها في التطبيل والمباركة والموالاة والخضوع إلى درجة الصفر في السياسة.

لا بد من الاعتراف بأن الأحزاب ذاتها تتحمل مسؤولية الوضع الذي انتهت إليه الممارسة السياسية فالنخب الحزبية تعبر عن عقل سياسي معطوب.

عبد الرحيم العطري

المثير في وضعنا السياسي الموسوم بالحصر والانسداد، أن البنى العميقة للدولة العربية، والتي تتحكم في كل حالنا ومآلنا، لا تعي مخاطر قتل السياسة، ولا تفيد من التاريخ القريب على الأقل، في تجارب تمييع السياسة والإعلاء من شأن الصوت الأحادي التسلطي، ذلك أن عبارات الربيع الديمقراطي الدالة تُنُوسِيَتْ، وعادت حليمة لعادتها القديمة.

إن عبارات من قبيل: "بن علي هرب"، "لقد فهمتكم"، "من أنتم؟"، "هرمنا من أجل هذه اللحظة"،...يُفترض فيها أن تذكر الحاكم العربي بأن اللعبة يمكن أن تحسم لصالح الشعب، وأن التاريخ ليس خطيا بالضرورة، بل يتضمن مفاجآت واحتمالات عصية على التخمين. فيما الشاهد يدفع إلى الاقتناع بأن ذاكرة ذات الحاكم لا تختلف عن ذاكرة السمك، وأن دروس الربيع ورسائله الواضحة والمشفرة لم تفهم بشكل كاف من لدن الجميع. 

أخيرا يمكن القول بأن حالة موت السياسة لا تنتج في النهاية إلا سياسة الموت، ذلكم هو قانون الوقائع والأشياء، فكل عنف لا بد وأن يستتبعه عنف مضاد، وكل تمويت للسياسة، لا بد وأن "يثمر" أرضا مَوَاتًا لا تَنْزَرِعُ فيها لا تنمية ولا ديمقراطية، فمتى ينتهي زمن الهدر السياسي؟ ومتى نغادر درجة الصفر في السياسة؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً