تابعنا
عند النظر إلى عملية "نبع السلام" شمال شرقي سوريا، يتوجب عدم الاكتفاء بالنتائج المحتملة للعملية على صعيد السياسة الخارجية، بل من الضروري في الوقت ذاته مراعاة انعكاسات العملية على السياسة الداخلية.

شهدت العملية العسكرية التركية "نبع السلام" شمال شرقي سوريا سلسلة من الأحداث التي أثرت في الديناميكيات والمجريات الإقليمية والدولية. العملية العسكرية التي أطلقتها تركيا بالتعاون مع قوات الجيش الوطني السوري من أجل إقامة منطقة آمنة وحماية أمن حدودها، لاقت دعماً من جانب بعض الدول، بينما انتقدتها دول أخرى. ولا شك أن النتائج السياسية والعسكرية لهذه العملية ستتواصل خلال الأيام المقبلة. غير أنه من المهم هنا عدم الاكتفاء بالأبعاد الدولية والإقليمية لهذه العملية، بل التركيز أيضاً على انعكاساتها على الرأي العام الداخلي في تركيا.

في البداية يتوجب علينا التركيز على موقف الأحزاب السياسية التركية من العملية، ومن ثم مواقف الفئات الاجتماعية المختلفة من أجل استيعاب انعكاسات عملية "نبع السلام" على الرأي العام الداخلي في تركيا.

فور بدء عملية "نبع السلام" شمال شرقي سوريا، أعلنت كافة الأحزاب السياسية في تركيا تقريباً دعمها العملية، وأكدت على شرعيتها وصحتها وأهميتها. أكبر أحزاب المعارضة في البلاد، حزب الشعب الجمهوري، وأحزاب المعارضة الأخرى، حزب الحركة القومية، وحزب "إيي" (الجيد)، أعلنت جميعها دعمها لرئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان وحكومته.

ولعل أبرز مؤشر لهذا الدعم يتمثل في تمرير مذكرة تمديد التفويض الممنوح لرئاسة الجمهورية بشأن العمليات خارج الحدود في العراق وسوريا لمدة عام، حيث وقّع عليها كل من حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، وحزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، وحزب "إيي". لأنه، وكما هو معروف، يتوجب الحصول على موافقة البرلمان في تركيا، من أجل تنفيذ عمليات عسكرية خارج حدود البلاد. وبتصويت كافة الأحزاب السياسية في البرلمان التركي بالموافقة على المذكرة، باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي، تم الحصول على الموافقة اللازمة لإطلاق العملية.

ويرجع السبب الرئيسي في اتفاق واتحاد الأحزاب السياسية التركية فيما يتعلق بهذه القضية، رغم وجود تباينات بينها في عديد من المواضيع، إلى إجماع كافة الأحزاب السياسية على مخاوف تركيا بشأن أمن المنطقة. فخلال السنوات الأخيرة، عانت تركيا من هجمات إرهابية عديدة كانت مصدرها سوريا. لاسيما في الفترة بين عامي 2015 و2016، نفذ تنظيما داعش و PKK الإرهابيان هجمات عديدة في البلاد استهدفت مدنيين وعسكريين، وأسفرت عن مقتل مئات الأبرياء.

وعليه، فتعرُّض تركيا لهجمات إرهابية عديدة مصدرها شمالي سوريا، ووجود مخاوف أمنية كبيرة فيما يتعلق بهذا الأمر، جعل من الضروري إطلاق عملية عسكرية تجاه هذه المنطقة. ولهذا السبب أبدت كافة الأحزاب السياسية دعمها للعملية، باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.

يشار إلى أن توصل كافة الأحزاب السياسية التركية إلى اتفاق فيما يخص عملية "نبع السلام"، ساهم في تطور وتحسن العلاقات بين الأطراف السياسية المختلفة. وفي هذا الإطار، قام وزير الدفاع التركي خلوصى أقار بزيارة كافة الأحزاب السياسية، وأطلعهم على معلومات عن سير العملية.

كذلك أجرى رئيس البلاد رجب طيب أردوغان اتصالات هاتفية بزعماء جميع الأحزاب، وأعرب لهم عن شكره لدعمهم العملية، وأطلعهم أيضاً على مجرياتها. وعلى هذا النحو ، نجحت عملية "نبع السلام" في إصلاح، إلى حد كبير، العلاقات السياسية التي كانت يغلب عليها التوتر بسبب قضايا سياسية داخلية.

كذلك تجدر الإشارة إلى أنه لم تكن الأحزاب السياسية وحدها هي التي توافقت فيما يتعلق بالعملية، بل حدث إجماع واسع لدى الرأي العام التركي أيضاً؛ فمنذ اللحظة الأولى عقب إعلان بدء العملية، أبدا جميع المواطنين على اختلاف توجهاتهم السياسية، دعمهم وتأييدهم للعملية. وظهر ذلك جلياً على منصات التواصل الاجتماعي بشكل خاص. واتحدت كافة الفئات العرقية والدينية والاجتماعية في كيان واحد.

وقد حدثت عدة تطورات أظهرت مدى قوة دعم الرأي العام التركي لعملية "نبع السلام" شمال شرقي سوريا، فمواطنون كثيرون بعثوا رسائل إلى مؤسسات حكومية طالبوا فيها بالاشتراك شخصياً في العملية والتبرع بجزء من ممتلكاتهم من أجل العملية. كذلك أبدا العديد من الرموز العامة، وفي مقدمتهم صحفيون وفنانون وأكاديميون دعمهم العملية عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتبرعوا بمبالغ كبيرة لـ"وقف محمد" الذي يرعى أسر الشهداء و مصابي الحروب.

دعم الأقليات الدينية في تركيا للعملية أيضاً لعب دوراً مهماً في إبراز دعم الرأي العام الداخلي للعملية. فبطريركية الأرمن في تركيا نشرت رسالة بخصوص عملية "نبع السلام"، قالت فيها إنها تدعو أن تحقق العملية أهدافها المتمثلة في إنهاء الإرهاب، وضمان أمن الحدود، وتأسيس السلام والأمن. كذلك الجالية اليهودية في تركيا أعربت عن تمنايتها بنجاح العملية.

وختاماً، فقد نجحت عملية "نبع السلام" في توحيد الرأي العام الداخلي في تركيا وجعلته يلتقي في نقطة واحدة للمرة الأولى منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016.

فقد تأثرت العلاقات بين الأطراف السياسية التركية سلباً، بسبب الانتخابات العديدة التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة. ولم تكن الأحزاب السياسية تصل إلى أي إجماع، أو تلتف حول رأي واحد. وقد انقسمت الأحزاب السياسية في تركيا إلى قطبين رئيسيين، "تحالف الشعب" (يضم حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية) و"تحالف الأمة" (يضم حزبي الشعب الجمهوري وإيي). غير أن عملية "نبع السلام" وضعت حداً لهذا الأمر.

لهذا السبب، عند النظر إلى عملية "نبع السلام" شمال شرقي سوريا، يتوجب عدم الاكتفاء بالنتائج المحتملة للعملية على صعيد السياسة الخارجية، بل من الضروري في الوقت ذاته مراعاة انعكاسات العملية على السياسة الداخلية.

كذلك ينبغي إدراك أنه من شأن هذا التقارب والتوافق على صعيد السياسة الداخلية، زيادة ثقافة التعاون بين الأحزاب السياسية على المدى البعيد والقريب، فضلاً عن الحد من الاستقطاب في الساحة السياسية. وستزداد قوة هذا الالتحام والتعاون، في حال تعرضت تركيا لعزلة دولية أو لعقوبات مختلفة بسبب العملية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي