تابعنا
ما تشهده منطقة إدلب من تصعيد مستمر هو ترجمة ميدانية لانتهاء مسار أستانا الذي مثلت اتفاقية تثبيت خفض التصعيد في إدلب بين الجانبين التركي والروسي محاولة إنعاشه الأخيرة.

جاء التصعيد الأخير في جنوبي منطقة إدلب بعد مرور قرابة ثمانية أشهر على هدوءٍ نسبي شهدته المنطقة منذ توقيع مذكرة التفاهم بين الطرفين التركي والروسي حول تثبيت خفض التصعيد في إدلب، وذلك في أيلول/سبتمبر الماضي. وقد استطاعت التفاهمات الروسية-التركية في وقتها تجنيب منطقة إدلب ما بدا وكأنه عملية عسكرية حتمية من قبل قوات النظام السوري المدعومة روسياً وإيرانياً.

فعلى الرغم من إنشاء منطقة خفض التصعيد في إدلب في أيار/مايو 2017 إلا أن قوات النظام والقوات الروسية استمرت باستهداف المنطقة. كما أن الأنظار كانت قد اتجهت إلى إدلب مع ترحيل آخر مقاتلي المعارضة من درعا في يوليو/تموز 2018 إليها، الأمر الذي أنهى عملياً منطقة خفض التصعيد في درعا، في مصير مماثل لما شهدته مناطق خفض التصعيد في كل من الغوطة وشمالي حمص، حيث تم ترحيل المقاتلين الموجودين في هذه المناطق إلى إدلب، ما جعل إدلب منطقة أزمات مُرحَّلة.

استطاعت اتفاقية تثبيت خفض التصعيد تحقيق هدوءٍ نسبي في منطقة إدلب المثقلة بأكثر من ثلاثة ملايين سوري غالبيتهم من المهجّرين والنازحين، إلا أن الاتفاقية لم تطبق وفق ما كان مخططاً لها، على الأقل ليس وفق رغبة الطرف الروسي.

فعلى الرغم من تطبيق بعض النقاط التي تم التوقيع عليها في مذكرة التفاهم بين الطرفين التركي والروسي من قبيل إنشاء منطقة عازلة ونزع السلاح الثقيل منها، إلا أن تركيا لم تنجح في إعادة تفعيل خطَّيْ م4 وم5 الدوليين، اللذين يصلان بين كل من حلب ودمشق وحلب واللاذقية مروراً بإدلب قبل نهاية عام 2018 وفق نص مذكرة التفاهم.

ومن ناحيةٍ أخرى وخلافاً للمطلوب، استطاعت هيئة تحرير الشام وريثة جبهة النصرة تعزيز سيطرتها على الأرض على حساب الفصائل المعتدلة كأحرار الشام وحركة نور الدين زنكي. عدم ترجمة التفاهمات على الأرض ترافق أيضاً مع فشل مسار أستانا بالتحول إلى مسار سياسي يمثل مخرجاً للأزمة السورية عبر مسار سوتشي، بخاصة مع اختزال كل المسار السياسي بلجنة إعادة صياغة الدستور والتي فشلت أطراف أستانا في التوافق حولها وتفعيلها.

وعليه فإن صلاحية اتفاق خفض التصعيد كانت قد انتهت فعلياً مع نهاية عام 2018 إلا أن تطوراً مهماً جمّد ملف إدلب لأشهر ومنع الجانب الروسي من اتخاذ أي خطوة ميدانية قد تتسبب في توتير علاقاته مع تركيا. ففي التاسع عشر من كانون الثاني/ديسمبر 2018 أعلن الرئيس الأمريكي ترمب خلال محادثة هاتفية مع الرئيس التركي أردوغان وبشكلٍ مفاجئ قراره سحب القوات الأمريكية من شمال شرقي سوريا. صرف هذا القرار المفاجئ كل الأنظار عن إدلب إلى منطقة شرق الفرات. كما مثل رافعةً سياسيةً مهمة لصاحب القرار التركي، الذي بدا وكأن سياسته في لعبة موازنة القوى بين روسيا وأمريكا بدأت تؤتي ثمارها.

وقد بدا هذا واضحاً في اللقاء الثلاثي الذي شهدته مدينة سوتشي في الرابع عشر من فبراير/شباط 2019 وحضره كل من الرئيس التركي أردوغان والرئيس الإيراني روحاني بالإضافة إلى الرئيس الروسي بوتين، إذ كان قرار الرئيس الأمريكي ترمب بالانسحاب من سوريا وتداعياته المحتملة الحاضر الغائب في اللقاءات والمؤتمر الصحفي. إلا أنه ومع مرور أكثر من خمسة أشهر، بدا واضحاً أن قرار ترمب الذي احتفت به تركيا لن يأخذ مجراه على الأرض، ليس على الأقل وفق الآمال التركية. ولهذا فقد عادت التوازنات في الأزمة السورية لما كانت عليه قبل الإعلان، لتعود معها روسيا من جديد إلى سياستها بالضغط على الطرف التركي عبر بوابة إدلب، في ظل غياب أمريكي وتصريحات أوروبية خجولة.

تعي روسيا من جهتها أن كلفة عملية عسكرية على إدلب دون تفاهم مع تركيا ستكون كبيرة.

بلال سلايمة

احتضار مسار أستانا كان واضحاً في الجولة الأخيرة للمفاوضات التي شهدتها مدينة نورسلطان (أستانا سابقاً) في الخامس والعشرين والسادس والعشرين من شهر نيسان/أبريل الماضي. إذ لم يخرج الاجتماع بأي جديد، وبدا واضحاً أنه وصل إلى طريق مسدود في ظل عجزه عن إحداث تقدّم ملموس في ملف اللجنة الدستورية أو ملف المعتقلين.

كما بدا وكأن الوفد الروسي أخذ يتماشى بشكل أكثر وضوحاً مع رؤية النظام باعتماد الحل العسكري في إدلب. وهو ما أكّدته تصريحات الرئيس الروسي بوتين بُعيد الاجتماع بأن احتمالية الهجوم على إدلب ما تزال قائمة، في الوقت الذي بدأت فيه بوادر العملية العسكرية على الأرض بالتشكل.

تسعى روسيا الآن لطيّ صفحة خفض التصعيد في إدلب كما فعلت سابقاً في مناطق خفض التصعيد الثلاث الأخرى. الأمر الذي لا توافق عليه تركيا، والتي ترى أن قضم الأراضي التدريجي بما يناقض الحدود المرسومة في اتفاقية تثبيت خفض التصعيد سيضعف من نفوذها في إدلب ومساحة مناورتها السياسية، كما أنه سيولّد موجات جديدة من اللاجئين نحو الحدود التركية، بدأت بوادرها مع نزوح أكثر من 150 ألف شخص في الأيام الأولى للهجوم.

تعي روسيا من جهتها أن كلفة عملية عسكرية على إدلب دون تفاهم مع تركيا ستكون كبيرة، وعليه فهي تعمل من جهة على الضغط على تركيا ميدانياً في إدلب، فيما تلجأ من جهة أخرى إلى المناورة في ملف تل رفعت، إذ تعطي الضوء الأخضر لتركيا حيناً ثم ما تلبث أن تقوم بإغلاق المجال الجوي أمامها.

من الواضح أن المخاض الصعب الذي ينتظر إدلب لن ينتهي بمسار سياسي جديد ولكن بتفاهمات ميدانية وهدن مؤقتة بين المعارضة والنظام برعاية تركية-روسية.

بلال سلايمة

عدم التفاهم التركي-الروسي بدا واضحاً من خلال الرسائل المتبادلة على الأرض، إذ تم استهداف نقاط المراقبة التركية المنتشرة في إدلب منذ بدأ الهجوم أكثر من ثلاث مرات، ما أدى لسقوط جرحى بين الجنود الأتراك.في حين تتحدث تقارير إعلامية عن تسليم تركيا لقوات المعارضة السورية صواريخ مضادة للدروع، ومشاركة فصائل من منطقة درع الفرات في مواجهة تقدم قوات النظام في شمالي حماه.

لكن مع ذلك لا بد من التأكيد أن كلا الجانبين التركي والروسي يدركان مدى حاجة كل منهما للآخر، وهو ما يعني أن حرباً بالوكالة بينهما في سوريا بعيدة الاحتمال. فالتنسيق المشترك بينهما سمح لكلا الطرفين بتحقيق تقدم في أجنداتهما الميدانية، فضلاً عن أن التعاون بين روسيا وتركيا يتجاوز الملف السوري إلى ملفات أمن الطاقة وحتى الأمن العسكري التركي، وعلى رأسه ملف نظام الدفاع الصاروخي S-400، الذي ستنعكس تطوراته سلباً أو إيجاباً على الميدان في إدلب.

ما تشهده منطقة إدلب من تصعيد مستمر هو ترجمة ميدانية لانتهاء مسار أستانا الذي مثلت اتفاقية تثبيت خفض التصعيد في إدلب بين الجانبين التركي والروسي محاولة إنعاشه الأخيرة. ومن الواضح أن المخاض الصعب الذي ينتظر إدلب لن ينتهي بمسار سياسي جديد، ولكن بتفاهمات ميدانية وهدن مؤقتة بين المعارضة والنظام برعاية تركية-روسية، فيما سيكون مصيرها مرتبطاً بسير العلاقات بين البلدين.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً