تابعنا
تَعرَّضَت الليرة التركية للتراجع في الأيام الأخيرة ولكن بالنظر إلى المؤشرات الاقتصادية فإنه لا توجد أسباب اقتصادية حقيقية وراء هذا التراجع الذي يُعزَى في كثير منه إلى أسباب غير اقتصادية مؤقَّتة سرعان ما تزول.

أعاد الهبوط الأخير لسعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي المخاوف لدى الكثيرين من استمرار هذه الانخفاضات، التي تجعل الاستقرار الاقتصادي الحادث مؤخراً عرضة للانتكاس والعودة إلى التقلبات القاسية التي عانى منها الاقتصاد التركي خلال الأعوام الأخيرة، الأمر الذي يهدّد بمعاودة معدَّلات التضخُّم الارتفاع مرة أخرى بعد انخفاضها المتتالي خلال العام الماضي، وبإلقاء مزيد من الأعباء على كاهل المواطن البسيط، إضافة إلى الشركات التركية المدينة خارجيا التي تتضاعف التزاماتها بالعملة الوطنية مقارنة بالدولار.

كما أن معاودة الهبوط أعادت إلى الأذهان سيناريوهات سابقة دشنها الكثير من مراكز الأبحاث الدولية المتخصصة في مقتبَل عام 2018 التي توقعت تخطي الدولار حاجز 11 ليرة بحلول منتصف 2019، وذلك بعد عام فقدت فيه الليرة نحو 30% من قيمتها، واستمر هذا التراجع بعد التوتر الأمريكي-التركي على خلفية شراء تركيا منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، واعتقال مدير "هالك بنك" التركي في الولايات المتحدة، وهي الأزمة التي تحلحلت بإفراج تركيا عن القس الأمريكي أندرو برونسون، الأمر الذي هدأ وتيرة الانخفاض، ودحض السيناريوهات المتشائمة بثبات سعر الليرة نسبيّاً خلال النصف الثاني من العام الماضي.

وكان سعر صرف الليرة التركية انخفض مؤخراً إلى ما يقرب من 6.20 للدولار الواحد بصورة مفاجئة وفي يومين فقط، وذلك على وقع إغلاق الحدود التركية مع إيران بعد تفشِّي فيروس كورونا في الدولة الجارة، وكذلك بعد تعثُّر المفاوضات مع روسيا بشأن الوضع العسكري في إدلب، إضافة إلى استشهاد الجنود الأتراك واضطرار تركيا إلى توسيع مجال الرد العسكري، الأمر الذي فجّر التساؤلات مرة أخرى حول مستقبل الليرة، لا سيما في ظل توقعات بتأثيرات سلبية عالَمية بسبب تفشي فيروس كورونا وتأثيره المتوقع على تباطؤ الاقتصاد الصيني ومن خلفه الاقتصاد العالَمي.

تتوقع تركيا أن تسجّل معدل نموّ 0.5% في 2019، وقد تحقق ذلك بالفعل، و5% لأعوام 2020 و2021 و2022

أحمد ذكر الله

ورغم وجود العديد من الأسباب التي تقف وراء هذا الانخفاض، والتي قد تزيده خلال الفترة القصيرة القادمة، فإن المؤشرات الرئيسية الكلية للاقتصاد التركي لا تعطي مبرّراً مقبولاً لهذا الانخفاض، بل من وجهة نظر الكثيرين تقدّم هذه المؤشرات العديد من عوامل بث الثقة والطمأنينة في مستقبل الليرة في الأجلين المتوسط والطويل، لا سيما في ظل التحسينات الإيجابية المستمرة لها خلال الفترة الماضية، وترقب الاقتصاد التركي المزيد من تحسنها خلال العام الحالي، الأمر الذي دفع العديد من المؤسسات الدولية لتعديل توقعاتها إيجابياً للاقتصاد التركي.

فعلى صعيد معدَّل النموّ وطبقاً لخطة وزير المالية بيرات ألبيرق، تتوقع تركيا أن تسجل نسبة نمو 0.5% في 2019، وقد تحقق ذلك بالفعل، و5% لأعوام 2020 و2021 و2022، ودعم هذا التفاؤل كل من صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الذين توقعوا نسبة نمو 3% لعام 2020 في مقابل صفر و0.3% على الترتيب، ودعمت بشائر الربع الأول من العام الحالي تلك التوقعات. وتوقع محللو بلومبرغ أن تركيا ستصبح ثالث أسرع دول العالَم نموّاً في الربع الأخير من 2020.

وفي عام 2019، انخفض التضخُّم في تركيا من نحو 20.35% في يناير إلى خانة الآحاد، إذ بلغ في نهاية العام الماضي أقل من 8.55% فقط، ودعمت توقعات صندوق النقد الدولي هذه التراجعات، إذ خفض الصندوق توقعاته للتضخُّم بتركيا إلى 12.6% في العام الحالي، مقابل 14.1% في تقديرات سابقة.

سجلت الصادرات التركية رقماً قياسياً العام الماضي ببلوغ قيمتها نحو 180.5 مليار دولار، وهو الرقم الأعلى في تاريخ البلاد

أحمد ذكر الله

وفي يناير الماضي خفض البنك المركزي التركي سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 75 نقطة أساس ليبلغ 11.25%، وذلك للمرة الخامسة على التوالي، في خطوة وُصفت بالأكثر إحكاماً منذ بدء سياسة التيسير النقدي في يوليو الماضي، مِما يشير إلى تراجع في الحفز النقدي مع تعافي الاقتصاد من الركود، ويبشر كذلك بدفع عجلة الاستثمار المحلي، وتقليل حالات التعثر في سداد المديونيات.

كما سجلت الصادرات التركية رقماً قياسيّاً في العام الماضي ببلوغ قيمتها نحو 180.5 مليار دولار، وهو الرقم الأعلى في تاريخ البلاد، كما انخفضت قيمة الواردات بنسبة 9% لتصل إلى 210.4 مليار دولار عام 2019. وتراجع بذلك عجز الميزان التجاري التركي بنسبة كبيرة تصل إلى 44.9%، ليبلغ نحو 30 مليار دولار مقابل 54.3 مليار في عام 2018، الأمر الذي يخفف الضغط عن النقد الأجنبي.

ودعم هذا التحسن في الميزان التجاري ما أعلنه المعهد الإحصائي التركي "تورك سات" عن انخفاض قيمة واردات الطاقة في تركيا بنسبة 4.2% في عام 2019، ليبلغ إجمالي وارداتها نحو 41.1 مليار دولار، نزولاً من أكثر من 43.5 مليار في العام السابق.

واصلت السياحة التركية قفزاتها الكبرى، إذ حقّقَت ارتفاعاً قارب 20% مقارنة بعام 2018، إذ زار البلادَ ما يزيد على 52 مليون سائح خلال عام 2019

أحمد ذكر الله

ونتج هذا الانخفاض في واردات الطاقة ليس فقط عن انخفاض أسعار النفط العالَمية، بل أيضاً للاستخدام الأكثر فاعلية للموارد المحلية، وتنمية إمكانات الطاقة المتجددة، وهو ما كان له دور هامّ أيضاً في تقليل عجز الحساب الجاري في مجال الطاقة، ومِن ثَم تقليل عجز الميزان التجاري الكلِّي.

وواصلت السياحة التركية قفزاتها الكبرى، إذ حقّقَت ارتفاعاً قارب 20% مقارنة بعام 2018، إذ زار البلادَ ما يزيد على 52 مليون سائح خلال عام 2019، منهم 45 مليون سائح أجنبي وسبعة ملايين من أصول تركية، مِمَّا حقَّق للبلاد دخلاً يقدَّر بنحو 35 مليار دولار.

وقد حطمت مدينة إسطنبول الرقم القياسي من حيث عدد السياح القادمين إليها، إذ وصل عددهم إلى ما يزيد على 15 مليون سائح في عام 2019، بنسبة ارتفاع قُدّرَت بما يزيد على 14% مقارنة بالعام السابق له، وتحققت تلك القفزات على الرغم من حملات المقاطعة والتحريض من بعض الدول العربية.

يشير الاستعراض السابق للمؤشرات الاجمالية للاقتصاد التركي، إلى صلابة الاقتصاد التركي ومرونته وقدرته على المنافسة واستدامة النموّ، مِما يعني عدم وجود أسباب اقتصادية حقيقية خلف الانخفاض الواقع لليرة في الآونة الحالية، الذي تحرّكه في الأساس عوامل غير اقتصادية يمكن وصفها بالعوامل المؤقتة التي سرعان ما ستزول آثارها بنهايتها، لا سيما في ظلّ موجة استرداد العافية التي يعيشها الاقتصاد التركي منذ منتصف العام الماضي، وهو الأمر الذي يدعم وصف الهبوط الحالي لليرة بكونه هبوطاً مؤقَّتاً وآمناً.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRTعربي.

TRT عربي