تابعنا
السياسة الأمريكية الحالية لا تعتبر حقوق الإنسان محدّداً لسياستها. وترى على لسان رئيسها أن القيم الغربية غير صالحة لغير الغرب، وترفع يدها عن بؤر التوتر، وتبني علاقاتها مع العالم بناءً على اعتبارات مصلحية.

برزت حقوق الإنسان كخطاب عقب الحرب العالَمية الثانية، جواباً على الانتهاكات التي تعرضت لها جماعات بشرية بناء على اعتبارات عرقية أو عقدية. وفي زمن كان الاستعمار ينيخ بكلكله على المعمور، ويزري بمن كان يُسمَّون بالأهالي، ويرى فيهم "مواطنين" من الدرجة الثانية، ويطبق عليهم أبارتيد فعليّاً. وحتى في دول متقدمة كالولايات المتحدة، كان يجري التمييز بين البيض والسود قانونيّاً إلى غاية 1965، بعد تبنِّي قانون المواطنة الذي ألغى الميز العنصري.

خطاب حقوق الإنسان لم يُلغِ ممارسة الانتهاكات، إذ ظلّ التميز العنصري سارياً، ضدّ السود خاصة، وكان أسوأ ممارسة تلك التي كانت قائمة بجنوب إفريقيا. بيد أن سقوط حائط برلين اعتُبر انعطافة من أجل إعطاء دفعة لحقوق الإنسان في العالَم، وحملته الولايات المتحدة في خطابها وجعلته محدداً لدبلوماسيتها.

واقع الحال يُظهِر أن الزمن الذي كان الغرب يعتبر حقوق الإنسان فيه محدِّداً لتوجهاته ومُحرِّكاً لسياسته، ومرجعية لدبلوماسيته قد ولَّى. فلو ألقينا نظرة عجلى على الانتهاكات الجسمية التي تُنتهك جهاراً لألفينا ما تجترحه حكومة برودي اليمينية في الهند، المدافعة عن هندوسية الهند في عداء سافر للمسلمين، هذا فضلاً عمَّا يتعرض له المسلون الروهينغيا في بورما.

اللافت أن الانتهاكات التي يتعرض لها المسلمون ليست أخطاء جانبية، أو زيغاً في الممارسة، بل تنبني على مرجعية سياسية وآيديولوجية، تنظر إلى المسلمين والإسلام نظرة عدائية وتروم التطهر منهم. ويعيش الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة، وفي أراضي 48 المُحتلَة، نظام أبارتيد مقيتاً.

وإلى جانب ما تعرفه الدول الآسيوية المُومَأ إليها، تنتشر في الدول الغربية اتجاهات يمينية متطرفة تنظر إلى الإسلام نظرة عداء، وترتبط بمرجعية فكرية تقوم على سموّ الإنسان الأبيض. وهي ذات النظرة التي اعتمدها جزار كرسيتن ستي بنيو زجلانا في مارس/آذار المنصرم لإطلاق النار على مصلِّين في مسجد، وترتبط بتنظير "التحوُّل الكبير"، الداعمة لسمو الإنسان الأبيض.

وتُعتبر الإسلاموفوبيا أحد مظاهر العداء، وتتخذ أشكالاً سافرة من خلال التصدي لأي تعبير سلوكي، سواء من حيث اللباس أو الطقوس أو المحرمات السلوكية أو الغذائية، بل التعرض حتى للاسم، أي بعد اللون، برز ما يسمى بثلمة الاسم والعقيدة.

ويظهر العداء بشكل مستتر في ما يسمى بالأبارتيد الفعلي أو الرخو من خلال التضييق في الحصول على شغل، أو حشر الساكنة المسلمة أو الملونة كما يقال في أحياء هامشية، أو التعرض للقيم الدينية والرموز باسم حرية التعبير. لم تعُد الاتجاهات اليمينية ترى في الاتجاهات العلمانية عدوها التقليدي، بل بين العدوين التاريخيين نوع من التطبيع ضدّ ما تراه العدوّ المشترك، وهو خطر الإسلام والمسلمين الذين، حسب هذه الاتجاهات مع أبواق إعلامية نافذة، يهدّدون بأسلمة أوربا كما يتردد في خطاب اليمين واتجاهات علمانية.

وتُعتبر الهجرة وما يصاحبها من تضييق قانوني وأمني وإنساني بصفة قبلية أو بعدية من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وإذا كان ما يميز العالَم الحديث كونه عالَم الهجرة، من أوربا أولاً نحو العوالم الأخرى، ومنذ الحرب العالَمية الثانية، من العوالم الأخرى نحو أوربا، فإن أسيجة عدة تحد منها، منها ما تتمترس فيه أوربا من قلعة متحصنة بالتأشيرات، فضلاً عن الإجراءات الأمنية المشددة للدخول أو العيش بها.

ازداد زخم الهجرة في تضافر الأزمة الاقتصادية وعوامل سياسية ناتجة عن تضييق لحقوق الإنسان، وحرية التعبير، أو نظام طائفي، أو حروب أهلية، دون أن تتسع فجوة الاستقبال. وأمام تسييج قلعة أوربا، نشطت الهجرة السرية وأباطرتها، مع ما يستتبعه ذلك من مآسٍ، من حالات الغرق في أثناء الإبحار نحو ضفة أوربا، أو ظاهرة المتاجرة بالبشر.

وقد وقف العالَم على مآسي المتاجرة بالبشر، في كل من ليبيا والصومال، حيث تتكدس أعداد كبيرة من الرجال والنساء، بل والأطفال، في ظروف مزرية، وتتم المساومة فيهم، كما يتم شراء الأشخاص المحتجزين لحرياتهم. ويعتبر كل من المغرب ولبيبا وتركيا المنافذ الكبرى، في حوض البحر الأبيض المتوسط، دونما دعم من المجموعة الأوربية التي تَكِل إلى دول العبور المهمة الصعبة.

وإذا كان خطاب حقوق الإنسان يتضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والحق في المطالبة بتلك الحقوق، فإن الممارسة في الآونة الأخيرة، في الغرب نفسه، تُظهِر التعامل الفظّ الذي تقوم به السلطات ضد الاحتجاجات، كما ظهر في تعامل فرنسا مع احتجاجات البدلات الصفراء، وحالات التعنيف المسجلة، فضلاً عن العنف الرمزي الذي يذهب بنعت المتظاهرين بالكسل، والدلال، والنزوع إلى الفوضى، مثلما ورد في خطاب مسؤولين حكوميين، بل اعتبار تلك الاحتجاجات مؤامرة "يسارية إسلامية" للنيل من الحضارة الغربية.

وإذا كان العالَم غداة سقوط حائط برلين قد أقر بالتعددية الثقافية والتنوع الثقافي، فإن تطبيقات هذا المبدأ أفضت إلى تمييز تفضيلي، وتوظيفها من أجل إضعاف مجتمعات أو دول بعينها بتشجيع الطائفية. ويعتبر العراق حالة مدرسية، إذ أدّت الوصاية الغربية أو بالضبط الأمريكية، إلى إرساء نظام طائفي، قانونيّاً وفعليّاً.

ومن مآسي توظيف الطائفية ما عرفته رواندا في تسعينيات القرن الماضي، من خلال اقتتال الهوتو والتوتسي. وتحمِّل رواندا مسؤولية الإبادة الجماعية التي عرفتها، دولاً غربية ضالعة ضلوعاً مباشراً، ولا مبالاة أخرى. ويتم توظيف التنوع الثقافي كوسيلة للتحكُّم من بُعد، للتأثير في حكومات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خاصة.

فهل نستطيع أن نتحدث بعد هذا الجرد عن حقوق الإنسان، أو زمن حقوق الإنسان؟

السياسة الأمريكية الحالية لا تعتبر حقوق الإنسان محدِّداً لسياستها، وترى على لسان رئيسها أن القيم الغربية غير صالحة لغير الغرب، وترفع يدها عن بؤر التوتُّر، وتبني علاقاتها مع العالَم على اعتبارات مصلحية. ويرى البعض من الولايات المتحدة نفسها، أن العالَم يعيش حالة احتباس ديمقراطي. ويُنعت الرئيس ترمب بثقب الأوزون، الذي خلخل التوازن "القيمي" الذي كان يقوم عليه العالَم. وتعتبر الطريقة التي تعامل بها الرئيس الأمريكي حول مقتل الصحافي جمال خاشقجي، استهتاراً سافراً بحقوق الإنسان.

نعم، هناك انتكاسة عالَمية في ما يخص حقوق الإنسان، ولكن الانتكاسة لا يعني السكوت عما يعرفه العالَم من انتهاكات. حقوق الإنسان ورش مفتوح، ومن الضروري تحسين الآليات، بل إرساء ميكانزمات جديدة من أجل فضح الانتهاكات وحماية حقوق الإنسان. التعامل التفضيلي أو الموسمي لحقوق الإنسان خرق لروح حقوق الإنسان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي