تابعنا
كثر الاحتفاء في الآونة الأخيرة بالحضور الثوري الكثيف للنساء، إلى الدرجة التي صِرن فيها أيقونات وركيزة للإنتاج الرمزي للحراك الثوري في السودان والعراق ولبنان وغيرها.

وهو مشهد يوحي "بالتكافل الرفاقي" بين نوعي المجتمع، الذي ينشأ على أساس من الندية والمساواة في حق تقرير مصيرهم المشترك، بعيداً عن قوالب التنميط، لكن هل يُنصف النساء بمجرد جعلهن رمزاً أو أيقونة؟ الأرجح، لا تجري الأمور بتلك البساطة أبداً.

الثورة الأنثى

في لبنان تتصدر النسوة الصفوف الأولى، كخطوط دفاع للمتظاهرين ضد الشرطة، مستغلات هذه المرة الأعراف التمييزية للصالح العام، فلا يُرفع سلاح في وجه امرأة، وفي مظاهرات مصر سبتمبر/أيلول الماضي، تلتقط الكاميرا نسوة السويس يقفن على نواصي منازلهن في الحارات والأزقة الضيقة، مطاردات رجال البوليس، باللعنات والشتائم وأبلغ نعوت الاحتقار.

وإذا فرزنا تاريخ الحركات الثورية الاجتماعية الحديثة، فلن ننتهي من السرديات البطولية لنساء ضحين بحياتهن في سبيل "الثورة"، من واقع شعورهن بالهم المشترك لأوطانهن، وعلى أمل أن يجدن نصيراً لقضاياهن، بل إن التاريخ النسوي المنظم في المنطقة العربية، أُنتج من سردية ثورة 1919 في مصر، إذ شكّل مشهد خروج النساء على نحو غير مسبوق وهن متحررات من حجابهن، أحد أهم مشاهدها وإنتاجها الرمزي، وكان الشائع من الرأي حينذاك، أنه لن تتقدم الأمة العربية والإسلامية سوى بتحرر نسائها.

فما نراه لا يكاد يختلف سوى في الدرجة أو الشكل، ومدى التأثير الذي أحدثته وسائل الميديا بتقنيتها الفائقة، حيث السرعة والكثافة والتكرار في العرض والوصول إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور الذي بدأ التغني بشعار " الثورة أنثى"، وبالمناسبة، غالباً ما استُخدم هذا الشعار من قِبل المنظرين اليمينين المعادين للثورات الذين اجتهدوا في تشبيه الثورة بالمرأة على النحو السلبي؛ خذ على سبيل المثال، جوستاف لوبون في كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير" ورأيه، الثورة كالمرأة، عمل انفعالي واهتياج هستيري لا عقلاني ضعيف الفكر.

في التراث الثوري اليساري الذي عُني بالمساواة المطلقة، اكتسبت قضايا المرأة منحى التنظير الجاد، وأُدمجت ضمن الشأن العام كجزء من قضية العدالة الاجتماعية وإدارة الصراع الطبقي، و"من أجل تغيير شرط الحياة، علينا أن نشاهدها من خلال أعين النساء" حسب ليون تروتسكي.

لكن هذه اليوتوبيا الثورية الرائعة سواء في ميادين الثورة والتنظير أو عبر التاريخ بعموميته وكذا الحاضر العربي، تتلاشى بعد خفوت الظرف الثوري، وما تلبث أن تصطدم الشعارات بالواقع الذي لا تتحكم به السلطة السياسية فحسب، وإنما العادات والأعراف والقيم وترسيمات دور النوع الاجتماعي، التي نشأنا عليها اجتماعياً وظلت لا تفارق ذهن حتى رفقاء النضال أنفسهم، هؤلاء الذين رفعوا شعارات المساواة والحرية من قبل في الميادين، إلى درجة بات يُخشى معها، أن تصير النساء مجرد لقطة دعائية لوجه الثورة أو مجرد أعداد. على أن الاحتمال الأسوأ هو بروز موضوع استغلال لا يختلف في جوهريته عن استغلال السلطة محل الصراع.

قضايا النساء أم الخبز؟

لعقود عديدة حتى بين صفوف أكثر من أيدوا مسألة المساواة في الحقوق المدنية أو العدالة بين النوع الاجتماعي، شاع اعتقاد أن القضايا النسوية هي شأن ثانوي خاص، وغير مهم ولا يمثل محورية جذب شعبي مثل الخبز والأمن المعيشي والصراع السياسي، وأُدرج ذلك في سياق عقلانية "أولويات النضال الثوري"، سيما أن العمالة النسائية، ومساهمتها في عملية الإنتاج العام والدخل القومي، متدنية بما لا يتجاوز الربع أو الثلث على أقصى تقدير، وعليه، كان المتوقع من النساء وفقاً "لطبيعتهن الإيثارية" حسب الدارج، أن يتخلين عن قضاياهن لصالح أولوية القضايا الكبرى، سواء إسقاط النظام الرأسمالي أو التحرر الوطني أو نصرة الدين والأمة.

وللموضوعية، لا بد أن نضع بالاعتبار متغيرات المعيار المادي وأبعاد المؤشر الطبقي والسياق الكلي الذي يتحكم في مثل تلك المسائل الشائكة، كما نقر بأن كلا الجنسين يعاني من وطأة الظروف المعيشية الصعبة، وشروط سوق العمل الحر المجحفة، واستبداد النظام السياسي، بل إن الرجل لا يزال يتحمل عبء الإعالة والإنفاق وشروط العمل بما يتجاوز 75%.

لكن، لا ينبغي أن يغيب عنا أن النساء يواجهن حصراً على أساس هويتهن الجنسية وعلى نحو متعسف، صنوفاً مختلفة من التكبيل والمخاطرة، تتفاوت حدتها في الأعراف والعادات الاجتماعية والطائفية التي تتحكم في حياتهن من أول ماذا يرتدين وكيف يسرن، وصولاً إلى قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بالزواج والطلاق والحضانة والتجنيس والانتساب وحق الانتقال والسفر، هذا غير العنف الأسري المحجوب منه والمعلن، وقضايا الشرف المهينة بحق النساء على اختلاف انتمائهن الاجتماعي، ودرجة الترقي المهني والتعليمي.

وإذا فرضنا جدلاً، أن الخبز أهم من قضية -قل مثلاً- التحرش الجنسي بالنساء سواء في بيئة العمل أو حيزات الفضاء العام كالشارع ووسائل النقل، وكذلك اتفقنا على أن تحسين الشرط المادي للرجل يعود بالنفع العام على الأسرة، فما القول عن العاملات المعيلات، والمطلقات والأرامل وغيرهن اللواتي يخاطرن بحياتهن يومياً، ويصبحن تحت وطأة الضغط النفسي والمادي عُرضة لفقد وظيفتهن، وسوء السمعة وتشريد أسرهن.

هذا في الوقت، الذي تشير فيه الدراسات إلى ارتفاع نسب الإعالة المؤنثة، وحول ما يتعلق بمسألة تقدير نسب العمل النسائي، نؤكد أنّ ثمة إشكاليات، لكن ما لا يتحمل التسويف، هو، وحسب ما يرصده الناشطون نسوياً من انتهاكات جنسية بحق النساء، سيما العاملات بالمصانع والورش والقطاع الخدمي التحتي، في ظل غياب التنظيمات النقابية وقوانين الحماية، عدا تحيز المجتمع والقانون إلى الرجل وترجيح روايته على الأغلب، نظراً إلى رمزية جسد المرأة المحمل بدنس الغواية والخطيئة، ومن ثمّ تتحمل تبعاته وحدها إلى حد إهدار الدم.

كتلة ثورية مفككة

نأتي هنا إلى النقطة الأهم حال أردنا الحديث بمنطق الأولويات، وسلمنا بثقل الوجود النسائي لأي حراك ثوري، ونقول بأنّ إقصاء القضايا النسوية والتنكر لها بذريعة سلم الأولويات هذا، لا يعود بالضرر على النساء فقط، وإنما يساهم بفاعلية في تفتيت الكتلة الثورية، وتشتيتها بدلاً من توحيد المهام والمصالح وبناء سلسلة مطالب توافقية بين عناصرها التكوينية.

وبالسياق ذاته، لا نغفل مسألة تعقب السلطة وتنظيماتها التابعة ضد النساء الثوريات، سواء بسجنهن وتعذيبهن، إلى غاية إذلالهن بأجسادهن كونهن نساء، مثال ذلك، كشوفات العذرية التي أُخضعت لها بعض النساء المصريات قسراً على يد المجلس العسكري عام 2011، وحوادث الاغتصاب المريعة في السودان 2019، ناهيك عن تجريدهن من الشرعية الاجتماعية عبر وصمهن بالانفلات الأخلاقي والفساد، وتعريفهن بالنعوت السلبية المشينة لهن ولعائلاتهن، جميعها عوامل تقوض الثقة وتعيق بناء قاعدة شعبية تدعم الثورة بالمجمل، عدا إهدار فرص تشكيل أي تنظيم فعال حتى بين صفوف الجماعة النسوية.

وإن كنا نوجه النقد إلى بعض النشطاء بالشأن النسوي، فإنه يتعذر تنحية تلك المؤثرات جانباً، لأنّ الصفوف في ظل فشل توحيد المصالح والمهام، تنقسم وتصير مجموعات صغيرة منغلقة على ذاتها، ومنفصلة عن الدوائر الاجتماعية الضاغطة والطبقات الدنيا، هذا إذ لم تتجه نحو السلبية السياسية وتتبنى الاختزال الثقافي، أو تبحث عن المجد الشخصي، وعلى نحو مفارق تستجيب لاستقطاب السلطة التي ثارت ضدها، وذلك بتعيينها في بعض المراكز القيادية والمناصب الإدارية للدولة وحصص الهيئات النيابية، أو اجتذابها ككتلة تصويتية في مرحلة الانتخابات، وهكذا وعلى نحو مفارق، تصير المرأة واجهة ورمز تكييف للثورة المضادة.

في السودان، التجربة الأنضج ثورياً على مستوى الخطاب والممارسة قياساً بالتجارب العربية، كان للمرء أن يرتجف من ثقة الصوت الرنان لرجل وامرأة يلقيان بياناً ثورياً على قدم المساواة، ويبشران بسودان جديد لا تمييز فيه على أساس الجنس أو العرق أو الدين، وإذ بنا مجدداً أمام تشكي بعض النساء الثوريات من عدم تمثيلهن، وإقصائهن من المشهد السياسي، في الوقت الذي يُستقطبن فيه من جانب المؤسسات والمنظمات الحقوقية الدولية، التي غالباً ما تفرض أجندتها تبعاً لما تنتهجه الجهات المانحة من سياسات وأفكار.

ولنكن منصفين، نختتم بالإشارة إلى بعض الجهود، التي وإن كانت محدودة التأثير والحيز، فإنها جادة وتستحق الدعم، تلك التي تقوم بها بعض الحركات النسوية اليسارية، التي شرعت في نقد ذاتها على المستوى النظري، وفي إطار بنيوي، محاولة دمج القضايا النسوية، وتحويلها إلى شأن عام لا يتجزأ، ولا ينفصل عن القاعدة الشعبية وهمومها، وهذا ما جسدته مثلاً، حركة "طالعات" في فلسطين، إذ إن عصا القهر في البيت كانت أو مؤسسات الدولة، متى وأينما استُخدمت، هي سلطة لا تُروِّض سوى مستعبَدين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عنTRTعربي.

احدى المتظاهرات اللبنانيات المناهضين للحكومة تكتب على يديها عبارة لبنان ثورة  بينما تجلس على الأرض لسد طريق في بيروت ، لبنان ، السبت 26 أكتوبر ، 2019. (AP)
امرأة عراقية تشارك في مظاهرة مناهضة للحكومة في بغداد ، العراق ، 31 أكتوبر / تشرين الأول 2019. (Reuters)
TRT عربي
الأكثر تداولاً