تابعنا
في ساعة مبكرة من صباح الجمعة الفائت دشنت الولايات المتحدة الأمريكية نهاية مأساوية لأحد أهم الرموز الأسطورية المشخصة لقوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، باغتيال قاسم سليماني ومرافقيه بالقرب من مطار بغداد.

ورغم أفول نجم سليماني ودفنه، فإن أذرعه لا تزال على قيد الحياة، فقد تمكن سليماني على مدى سنوات من نسج تحالفات وتشكيل شبكة واسعة من الأذرع المسلحة ساهمت في تمدد نفوذ إيران في العالم العربي، وعملت على خلق فضاء جيوسياسي إيراني ممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق.

على مدى عقود أسس سليماني خلال إدارته "فيلق القدس" شبكة واسعة من المليشيات الخارجية التي باتت أحد أهم مرتكزات الاستراتيجية الإيرانية للأمن القومي التي تقوم على اعتماد نمط "الحروب اللا متماثلة"، وهي شبكة معقدة تتكون من مليشيات شيعية ممتدة جغرافياً ومترابطة عقدياً ومتنوعة ديموغرافياً، تتبع أيديولوجية "ولاية الفقيه" وتنفذ رؤيتها واستراتيجيتها، بحيث أصبحت أذرع سليماني من أهم محركات النفوذ الإيراني في المنطقة.

لم يكن نفوذ سليماني نتاج عمله وعبقريته فحسب، بل للمفارقة كانت مساهمة السياسة الأمريكية وحساباتها قصيرة النظر حاسمة في تضخيم شبكته وصناعة أسطورته.

فرغم الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين حول التعامل مع إيران، إلا أن ثمة توافقاً على استبعاد خيار الحرب الشاملة. فحسب "فالي نصر" الذي كان مستشاراً لوزارة الخارجية الأمريكية في إدارة باراك أوباما، ثمة فرضيتان مؤكدتان، الأولى أن إيران ليست سبباً في الانهيار الذي حصل للنظام الإقليمي العربي في السنوات الأخيرة، والثانية أن إيران تستفيد من هذا الانهيار. ولذلك فإن حل معضلة الانهيار العربي ليس بالصدام مع إيران، ومحاولة احتوائها، فذلك لن يعيد الاستقرار للعالم العربي، ويكمن الحل بقيام الولايات المتحدة بالمزيد من إدارة الصراع، وإعادة التوازن إلى المنطقة، الأمر الذي، "يتطلب منهجاً دقيقاً لا مباشراً، بما في ذلك العمل مع إيران وليس الصدام معها".

في كل مرة كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحاول الحد من النفوذ الإيراني كانت تساهم بطرائق عديدة في خروج إيران أكثر قوة وأوسع نفوذاً، وذلك من خلال هيمنة رؤية أمريكية ترى في العالم السني خطراً على مصالحها باعتباره ينطوي على بنية متطرفة "إرهابية" متجذرة، بينما يشكل الشيعة حليفاً محتملاً في "الحرب على الإرهاب"، وهو ما أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب التأكيد عليه بدعوة إيران إلى التعاون في حرب إرهاب تنظيم داعش الإرهابي كعدو مشترك بعد مقتل سليماني.

في هذا السياق، فقد دعمت واشنطن صدام حسين في حربه ضد إيران وصنفتها واحدةً من دول "محور الشر" إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، ثم خلّصت إيران من حكم صدام حسين عام 2003 وأصبحت العراق في دائرة النفوذ الإيراني، ومنذ هجمات سبتمبر 2001 دعمت أمريكا وبشكل منتظم المصالح الإيرانية، عندما قامت بالإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان، ولم تنته جوائز أمريكا لإيران عند هذا الحد، ففي عام 2014 وبعد اجتياح مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي شمالي العراق قامت الولايات المتحدة بتشكيل تحالف من 80 دولة لمواجهة جهاديي داعش الإرهابي وكانت إيران هي المستفيد الأكبر.

تشكّل عقيدة "الإرهاب السني" الإطار الجامع للتحالف الموضوعي الأمريكي الإيراني، وهو الذي مكّن سليماني من مد شبكة مليشياته في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فقد منحت القوات الجوية الأمريكية هذه المليشيات قوة هائلة وعملت معها على الأرض.

ففي اليمن باتت مليشيا "أنصار الله" الحوثية قوة بفضل القوات الأمريكية التي تركتها لمواجهة عدو مشترك ممثلاً بتنظيمي "القاعدة" و"داعش"، وفي سوريا تمددت شبكة وكلاء سليماني بذريعة التصدي لتنظيم داعش الإرهابي، وقام سليماني بتدريب وتمويل أكثر من 100 ألف مقاتل شيعي، وظهر سليماني مرات عديدة في معارك وهو يقود المليشيات الشيعية بنفسه.

ونشر حزب الله اللبناني نحو 8 آلاف مقاتل في سوريا، وساعد الجماعات غير الحكومية التي عُرفت باسم المقاومة الإسلامية هناك، كقوات "لواء أبو فضل العباس" المكونة من العراقيين في الغالب التي تنشط حول دمشق، وقام "فيلق القدس" بتوسيع كوادر اللواء في سوريا بصورة أكثر من خلال مجموعة "عصائب أهل الحق"، ومن بين هذه الجماعات قوات الرضا، وجماعة الغالبون، وسرايا المقاومة الإسلامية في سوريا، وجماعة لواء الباقر إضافة إلى الجماعة الشيعية الباكستانية "لواء زينبيون" والجماعة الشيعية الأفغانية "لواء فاطميون".

إن أذرع سليماني الأقوى اليوم تقع في العراق بفضل السياسات الأمريكية في "الحرب على الإرهاب"، فقد أدى صعود تنظيم داعش الإرهابي إلى مأسسة مليشيات سليماني وجعلها دولة داخل الدولة العراقية، وقد عملت هذه المليشيا جنباً إلى جنب مع القوات الأمريكية في قتال تنظيم "الدولة"، وقد أصبح وجودها قانونياً، بعد إقرار قانون هيئة الحشد الشعبي من مجلس النواب العراقي بالأغلبية في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وسط غياب واعتراض ممثلي السنة.

قبل مقتل سليماني مع تصاعد حملة "الضغوط القصوى" شهدت العلاقات الأمريكية الإيرانية مزيداً من التوتر بعد اندلاع الحراكات الاحتجاجية التي اجتاحت إيران والدول الواقعة تحت هيمنتها في العراق ولبنان، والتي كانت أحد مطالبها في العراق التخلص من الهيمنة الإيرانية والطبقة السياسية الشيعية الفاسدة، وقد سارعت إيران ووكلاؤها إلى اتهام المحتجين بتنفيذ مؤامرة "أمريكية"، ونفذت حملة من القمع الممنهج، أسفرت عن مقتل 500 عراقي وإصابة أكثر من 25 ألفاً آخرين.

وبدأت أذرع سليماني بتصعيد الهجمات على أهداف أمريكية في العراق، وحولت كتائب حزب الله وِجهتها نحو القوات الأمريكية في العراق، كما فعلت في 27 ديسمبر/كانون الأول، عندما قتلت متعاقداً أمريكيا وأصابت ثلاثة عسكريين أمريكيين في القاعدة العسكرية في كركوك.

لم يكن الهجوم بغارات جوية أمريكية على مقرات حزب الله العراقي والتي قتلت أكثر من 24 من مقاتلي الكتائب كافياً لردع أذرع سليماني، بل دفعت مؤيدي المليشيات لشن هجوم على السفارة الأمريكية عشية رأس السنة الجديدة، وقد انضم إلى أنصار كتائب حزب الله خارج السفارة الأمريكية ثلاثة من أقوى قادة المليشيات الموالية لإيران في العراق، وهم أبو مهدي المهندس قائد الكتائب ونائب قائد قوات الحشد الشعبي وزعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، وقائد فيلق بدر هادي العامري، وفرضوا على البرلمان إصدار قرار برحيل القوات الأمريكية من العراق.

لقد نفذت إيران وعدها بالانتقام لمقتل سليماني بإطلاق بضعة صواريخ في مناطق شبه خالية لم تصب أحداً من الأمريكيين ولا غيرهم، لكن إيران تدرك أن قوتها تتمثل بصورة أساسية بأذرع سليماني التي لا تزال تعمل بعد مقتله، رغم أن خيارات بعض الأذرع محدودة.

فرغم توعد الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الجيش الأمريكي بـ"دفع الثمن"، وأن الهدف سيكون: كل جندي أمريكي في المنطقة، فإن ذلك لا يعدو كونه خارج الإمكان، فالحزب يقع تحت وطأة ضغوطات داخلية ودولية صعبة، بينما أذرع سليماني في سوريا تقع تحت رحمة الضربات الإسرائيلية، من جهة، وتحت رحمة بوتين، حيث توشك روسيا على وضع نهاية لنفوذها، وفي اليمن فإن مليشيات "أنصار الله" الحوثية تبحث عن صفقة معقولة في ظل براغماتية متنامية.

خلاصة القول: إن أذرع سليماني لا تزال تعمل رغم مقتله، لكن الذراع الأكثر خطورة تلك التي تقع في العراق، فهي تشكل حالة استثناء نسبة لباقي الأذرع، فهي تختطف الدولة وتمتلك القدرة، وهي تشعر بخطر وجودي، قد يدفعها للذهاب إلى النهاية، حيث قال قيس الخزعلي، زعيم ميليشيا "عصائب أهل الحق" إن إيران قامت بالرد الأولي على مقتل سليماني، مضيفاً أن الوقت حان للرد العراقي، وأعربت "حركة النجباء"، في تغريدة عن "شكرها" لإيران وتوعدت بـ"الثأر" وبمواصلة القتال ضد القوات الأمريكية، بينما حزب الله العراقي لا يكف عن التهديد بقتال أمريكا، وبهذا فإن إيران سوف تصعّد من ضغوطاتها على الولايات المتحدة في العراق بطرائق شتى حتى تدفعها إلى الرحيل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً