تابعنا
الرفض الأوروبي الصريح لخطة الضم لم ينتج عن ثوابت أوروبا من "إسرائيل" بقدر ما نبع من عمق الأمن الاستراتيجي الأوروبي وإشكاليته المزمنة مع روسيا.

لا تأخذ المواقف الأوروبية شكلاً جذرياً من قضايا الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلا في زوايا متعلقة بوجود دولة الاحتلال وأمنها، وما عدا ذلك فهي مواقف يمكن إعادة تشكيلها بناءً على تطورات الأمر الواقع الذي يجيد الاحتلال إنتاجه ورسم نقاط اللا عودة فيه.

كان الموقف الأوروبي من صفقة القرن التي أعلنها ترمب في يناير/كانون الثاني الفائت، متردداً. والرفض الذي ظهر بعد أيام كان خجولاً، ونبرته تراعي اتساع خرق حلف شمال الأطلسي (الناتو) نتيجة السياسة الأحادية للرئيس ترمب في إدارة ملفات التعاون الدولي.

لكن في خطوة الضم التي أعلن نتنياهو عزمه تنفيذها، كان الموقف الأوروبي صريحاً واضحاً، وذا نبرة اختلفت عن تلك التي تراعي أفضلية "إسرائيل" كامتداد استعماري لها في الشرق الأوسط.

الرفض الأوروبي الصريح هذه المرة لم ينتج عن ثوابت أوروبا من "إسرائيل" بقدر ما نبع من عمق الأمن الاستراتيجي الأوروبي وإشكاليته المزمنة مع روسيا.

إذ إن الدعم أو السكوت أو التردد في رفض الضم الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية سيعني بشكل غير مباشر إمكانية شرعنة الضم الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014. وبالتالي إمكانية تحويل انتهاك القانون الدولي لممارسة ممكنة في قلب أوروبا كما هي في الشرق الأوسط.

التدخل الروسي بأوروبا استخباراتياً وسياسياً وعسكرياً، قضية تحاكي جوهر النظرية الأمنية لأوروبا التي لا تزال تتعامل مع روسيا كتهديد استراتيجي. بخاصة مع تصاعد جرأة موسكو في الذهاب بعيداً في اختراق شوارع المدن الأوروبية واستهداف عملاء سابقين بطرق مختلفة، كان ذروتها محاولة اغتيال سيرغي سكريبال وابنته في مدينة سالزبيري البريطانية في 2018، باستخدام غاز الأعصاب وفقاً للحكومة البريطانية.

استخدام مثل هذا السلاح يعتبر سابقة وتجاوزاً لقواعد اللعبة، وهذه قضية لا تزال تتفاعل حتى اليوم، إذ تتجهز الحكومة البريطانية لنشر تقرير مفصل حول دور روسيا في بريطانيا بعد حادثة سالزبيري التي تبعتها أزمة دبلوماسية بين روسيا والغرب ككل عبر أوسع حملة طرد لدبلوماسيين روس من العواصم الغربية.

الدعم أو السكوت أو التردد في رفض الضم الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية سيعني بشكل غير مباشر إمكانية شرعنة الضم الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014

طارق حمود

هنا لا بد من قراءة الموقف الروسي من الضم الإسرائيلي، وهو الرفض الصريح أيضاً حفاظاً على الشذوذ الأمريكي، وتماشياً مع الموقف التقليدي لروسيا تجاه الصراع القائم على حل الدولتين من جهة أخرى. وهنا لا بد من ملاحظة أن التصريحات الروسية والبيانات التي أدانت خطة الضم لم تربطها مباشرة بمخالفتها للقانون الدولي بقدر ما ذكرت القانون كمرتكز لحل الدولتين الذي يتبناه المجتمع الدولي لإنهاء الصراع.

ومع ذلك فإن حميمية نتنياهو وبوتين مرتكز قد يكون أهم من الموقف المعلن. فبوتين يعلم أن تمدده المريح في المنطقة بمساحات الفراغ التي انكفأت عنها أمريكا يستدعي تفاهماً مع "إسرائيل" وحفظ متطلباتها "الأمنية".

للمزيد حول الموضوع، يمكنك قراءة:

هل نرى خارطة طريق فلسطينية لمواجهة الضم؟

وهو تفاهم يوفر له بالمقابل سلوكاً إسرائيلياً مفيداً ضد الوجود الإيراني، من دون الحاجة إلى استنزاف موارد روسيا بإعادة رسم خريطة النفوذ على الأرض السورية. والنتيجة أن روسيا معنية بأن تظهر جزءاً من إجماع دولي ليس فيه أمريكا، لكن تمددها في المنطقة وشمال إفريقيا هو المحدد النهائي والأهم. أي أن العلاقة الروسية-الإسرائيلية مركبة بطريقة تجعل الموقف الأوروبي يدرك خطورة تأييد الضم أو السكوت لتمريره.

هكذا تجتمع عوامل جيوسياسية واستراتيجية في تحديد المواقف الدولية من قضية ليس لأصحابها الفلسطينيين أدنى تأثير في تفاعلاتها. ويلعب فيها العرب دور المتفرج من المقاعد الخلفية على مشروع ينتهك أولاً مرجعياتهم التي فرضوها على الفلسطينيين، من قبيل المبادرة العربية.

إن الموقف الأوروبي الذي يبدو جاداً لأسباب جيوسياسية، تبقى فاعليته موضع شك مع ظهور مواقف تغازل الخطوات الإسرائيلية والمبادرات الأمريكية في أكثر من بلد مركزي في الاتحاد، كالنمسا وهنغاريا وبولندا.

والسبب في ذلك متعلق بصعود اليمين الشعبوي في هذه البلدان التي ترى بشعبوية ترمب ويمينية نتنياهو امتداداً طبيعياً لها. وهذا مؤشر يجعل الرهان على المؤسسة الأوروبية في موضع شك. فالاتحاد الأوروبي بات يتعامل مع صعود اليمين المتطرف في فنائها السياسي على أنه تهديد لا يقل عن تهديد الفكر الإرهابي. وتُعد خطط كبرى لمواجهته. لكن حتى الآن تبدو موجة اليمين أعلى من المركب بالقارة العجوز، ومسألة استعادة التوازن ليست محسومة. لكن بالمقابل بعض الدول مثل بلجيكا ناقش برلمانها الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين رداً على الضم.

لذا فالرهان على المعادلات الدولية قدر لا مفر منه في ظل الضعف الحالي الذي نعيشه. وإمكانية التأثير فيه مسألة ليست مستحيلة لكنها تحتاج إلى إرادات غير قائمة اليوم.

موقف أوروبا لا بد من استثماره لسبب بسيط، وهو أنه موقف لا يرتكز على محددات الصراع التقليدية بين الفلسطينيين والاحتلال التي لم تكن بصالحنا يوماً، بقدر ما يرتكز على مؤثر داخلي حساس في أوروبا.

كما أن هذا يتعزز مع وجود أكبر حركة تضامن دولية غير حكومية بالعالم لصالح فلسطين بالقارة. كان آخر خطواتها توقيع أكثر من 1000 برلماني أوروبي على عريضة تعارض الضم وتطالب أوروبا بمواجهته. كما أن ائتلاف مؤسسات غير حكومية إنسانية وحقوقية في بريطانيا سينشر عريضة موقَّعة من كبرى المنظمات في البلاد تطالب الحكومة بخطوات منها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حال نفذ نتنياهو الضم.

أضف إلى ذلك أن الجاليات اليهودية وكبار شخصياتها في أوروبا عبرت بشكل أو بآخر عن معارضتها الضم والقلق حيال نتائجه. كل هذا يجعل الموقف الأوروبي موقفاً يمكن استثماره، ويضعنا أمام فرصة صغيرة الاهتمام بها ليس ترفاً مع فقدان أوراق اللعبة بمعية أوسلو ومسار التيه الفلسطيني.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً