تابعنا
أسفرت الانتخابات الجزائرية التي جرت مؤخراً عن فوز السيد عبد المجيد تبون، وهي أول انتخابات تجري بعد الإطاحة بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.

قد لا نَجدُ أفضل من المَثل الجزائري الدارج "راحْ الحاج موسى وجاء موسى الحاج" للتعبير عن جمود النظام الحاكم، واستبدال واحد من أفراد الحرس القديم بالرئيس المخلوع. وإذا كانت الأرقام الرسمية تتحدث عن نسبة مشاركة لم تتجاوز 40% داخل الجزائر و9% بالنسبة إلى الجالية في المهجر، فإن كثيراً من المراقبين رجّح أن تكون النسبة الحقيقية أقل بكثير من تلك التي أُعلن عنها يوم الجمعة 13 ديسمبر/كانون الأول.

وتؤيِّد هذا التشكيك الأجواءُ المشحونة والمظاهرات التي جابت شوارع العاصمة وعدة مدن في شمال ووسط وجنوب البلاد خلال يوم الاقتراع، كما شهدت منطقة القبائل اقتحام مكاتب التصويت وتكسير الصناديق وتمزيق سجلات الناخبين بخاصة في مدن بجاية وتيزي وَزو وسْطيف، وتبقى أقوى المؤشرات على تضخيم نسبة المشاركة هي مقاطعة جلّ الأحزاب السياسية لهذه الانتخابات، وحتى الحزب الحاكم لم يكُن لديه مرشح رسمي، فيما يقبع زعيم الحزب الثاني في التحالف الحكومي السيد أحمد أويحيى في السجن، فمَن صوت إذاً؟

لحل هذا اللغز ينبغي أن نعود إلى تصريحات الحاكم الفعلي للجزائر الجنرال قايد صالح، فقد أعلن قبل يومين من إجراء الانتخابات أن "الشعب هو الجيش والجيش هو الشعب"، وهذه العبارة تختزل المشهد السوريالي كله لهذه الانتخابات، بل إنها ترقى إلى مقام المَقولة المُؤسسَة لِما قد يُطلَق عليه لاحقاً الديمقراطية العسكرية التي ستعوض الديمقراطيات الشعبية والتمثيلية التي عرفها العالَم خلال القرن العشرين.

هو فصل جديد لمسرحية قديمة، يتم فيها تغيير الأقنعة والاحتفاظ بنفس الوجوه، فالسيد عبد المجيد تبون، الذي يبلغ من العمر ثلاثة وسبعين خريفاً، تقلب في مناصب المسؤولية السامية منذ بداية التسعينيات، وشارك خمسَ سنوات متوالية في حكومة عبد المالك سلال وزيراً للإسكان ثم للتجارة قبل أن يَخلفه في منصب الوزير الأول سنة 2017. وقبلها شارك في حكومتَي أحمد بن بيتور وعلي بن فليس منافسه في انتخابات الرئاسة الأخيرة. ورغم كل ماضيه القريب والبعيد داخل السراي الحكومي، تحدث السيد تبون في أول ندوة صحافية بعد وصوله إلى كرسي الرئاسة عن حُكم العصابة، كأنه لم يكُن عضواً منها.

ويبقى السؤال المطروح: ماذا عن المرحلة القادمة؟ فيأتينا الجواب من الشارع الجزائري في الجمعة الثالثة والأربعين من الحراك الشعبي بأنه مُصِرّ على بناء الدولة المدنية وإسقاط حكم العسكر، وبأن نتائج انتخابات "العصابات" لا تعنيه في شيء، وعلى النقيض من ذلك، أعلن الرئيس المعين عن نيته فتح الحوار مع ممثلي الحراك، ومحاربة الفساد وتعديل الدستور، وهي النقاط الثلاث التي سبق للرئيس المخلوع أن طرحها في مارس/آذار للالتفاف على الحراك دون أن يُفلح في إخماده.

عمليّاً لا يمكن الحديث عن الحوار مع رئيس مطعون على شرعيته، وفي وقت يستمرّ فيه تكميم الأفواه ومصادرة الحريات، فقد أعلنت الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان يوم السبت 14 ديسمبر/كانون الثاني عن اعتقال مئات المُحتجِّين في مدينة وهران وحدها، كما لا يمكن تصديق شعار محاربة الفساد من طرف شخص كان بالأمس القريب وزيراً في حكومة عبد المالك سلال الذي حُكم عليه الأسبوع الماضي بالسجن اثنتي عشرة سنةً نافذةً في قضايا فساد واستغلال نفوذ، كما لا ننسى أن خالد تبون نَجْل الرئيس مُتابع أمام المحاكم في قضية تهريب 700 كيلوجرام من الكوكايين، وهي فضيحة تفجرت سنة 2018 وأطاحت بالمدير العام للشرطة الجزائرية آنذاك الجنرال عبد الغني الهامل، وفي الديمقراطيات الحقيقية يستقيل المسؤولون لمجرد ارتباط اسمهم بقضايا لا ترقى إلى فضائح من هذا العيار.

أما الدستور فقد أفقدته التلاعبات المتتالية مصداقيته سواء بمناسبة مراجعته للتمديد مرتين لبوتفليقة سنتي 2008 و2014، أو عند العودة إلى تحديد فترة الرئاسة في عُهدتين سنة 2016، وبعد ذلك عندما تم تجاوز آجال التسعين يوماً لإجراء الانتخابات الرئاسية الحالية، وعند تعيين هيئة الإشراف على الانتخابات، ثم إقالة وزيرٍ في حكومة نورالدين بَدْوي الانتقالية، واستحواذ قائد الجيش على السلطة الفعلية، كل ذلك تمّ خارج النص الدستوري. وقبل هذا وذاك طالب الحراك بلجنة تأسيسية تُعهَد إليها صياغة الدستور قبل إجراء الانتخابات، فكيف يقبل الشارع بفُتات تعديلات تحت إشراف أقطاب النظام القديم؟

يُمكن القول إن الانتخابات الرئاسية ستزيد الأزمة تعقيداً، وقد يلجأ الجنرالات إلى إعلان حالة الاستثناء وَفْقاً للمادة 107 من الدستور كآخر ورقة بقيت في أيديهم لإخماد التظاهرات. فهل سينجح الحراك في الحفاظ على سِلْميته والرُّسُوّ بسفينته في بر الأمان؟ إنه تَحَدٍّ كبير ولكنه ليس بالمستحيل.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كُتابها ولا تعبر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً