رئيس الوزراء لحكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة (Yousef Murad/AP)
تابعنا

لا حديث في ليبيا هذه الأيام سوى عن رئيس الوزراء لحكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، فالبحث عن الحكومة عبر محرك البحث جوجل أو من خلال متابعة وسائل الإعلام الليبي، وصفحات التواصل الاجتماعي تؤكد صعود نجم رئيس الوزراء، لكن هذا الصعود خلق تساؤلات عن إمكانية تأجيل الانتخابات، في حين تنص وثيقة جنيف على إجراء الانتخابات نهاية هذا العام في ذكرى استقلال ليبيا في الرابع والعشرين من ديسمبر.

الظاهر من خلال تتبع الأحداث ومسار الأزمة في ليبيا، ومقارنتها بمسار أزمات سابقة، يؤكد إمكانية إجراء الانتخابات خلال هذه السنة، أو ربما تأجيلها لأشهر قليلة لأسباب فنية بسبب تعطل التوافق على قانون ينظم العملية الانتخابية، لكن المسار الكلي سيستمر في الطريق نحو الانتخابات.

يرد سؤال آخر: هل هذه الانتخابات تمثل الحل للأزمة الليبية؟ ما الذي سيحدث إذا لم تكن نتائج الانتخابات توافق مصالح بعض الدول أو أنها تقصي بعض الأطراف المهمة في المشهد، والتي تملك كتائب مسلحة وتسيطر على بعض المناطق في ليبيا؟

كل هذه الأسئلة جعلت بعض أعضاء لجنة الحوار التي شكلتها بعثة الأمم المتحدة تقدم مقترحها بإجراء انتخابات برلمانية وليست رئاسية، لكن إصرار رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ومن ورائه جنرال الحرب خليفة حفتر على إجراء انتخابات رئاسية خلق جدلاً آخر، هل يحق لعسكري أن يدخل السباق الانتخابي؟ وبما أن الانقلابي حفتر يملك جوازاً أمريكياً فإن السؤال الذي طُرح هو هل يُسمح لمزدوجي الجنسية بخوض الانتخابات؟

هذا الواقع المعقد يدل على تناقضات المشهد، وصعوبة الانتخابات، وحجم الهوة بين أطراف النزاع في ليبيا، لكن إذا دققنا النظر فإن هذا يؤكد تغير النموذج الحاكم للصراع في ليبيا، فهذا المزاج الانتخابي حين يسعى كل طرف للفوز سواء من خلال دعايات انتخابية مبكرة، كما فعل اللواء المتقاعد حفتر مؤخراً حين خلع بزته العسكرية وأعلن ترشحه للرئاسة، يبين أن الطموح للفوز بالانتخابات هو المحرك للأطراف كافة، وأن العمل العسكري صار تابعاً للعملية السياسية، بل إن محاولة كسب ود الشارع الليبي ستجعل من الصعب العودة إلى مربع الحرب، وحتى وإن عادت بعض الأطراف إلى الحرب فإنها ستجد من الصعوبة إيجاد مبرر لهذه الحرب، أو بناء سردية تمكنها من كسب الأنصار في ظل هذا المزاج العام الذي ينادي بالاستقرار والسلام في ليبيا.

قد يظن البعض أن هذا إفراط في التفاؤل، لكن ومع إقرارنا بأن المفاجآت وكواليس المشهد قد تخلق سيناريوهات أكثر قتامة وسوءاً في المستقبل، إلا أن إدراك طبيعة النزاعات الدولية، ونمط التحولات في التاريخ الليبي يبين عدة حقائق يمكنها أن تضع هذا التحول في المشهد الليبي في سياقه الصحيح دون الدخول في جدلية التشاؤم والتفاؤل. أولاً، مسار الأزمة في ليبيا أخذ شكلاً سينياً أي على شكل “S“ وهذا هو المسار الطبيعي لكثير من النزاعات الداخلية أو الحروب الأهلية، لأن الحرب التي قامت عام 2014 والتي أفرزت اتفاق الصخيرات الوثيقة الدستورية الثانية بعد الإعلان الدستوري الذي صدر بعد ثورة فبراير، والحرب التي قامت بعد ذلك في طرابلس في الرابع من أبريل/نيسان عام 2019 قد وصل العنف فيها أشده، وأظهر كل طرف قوته وحلفاءه في الساحة الدولية والإقليمية، وهنا استنفدت كل القوى الداخلية ما عندها من رصيد عنف يمكن أن يحقق مصالحها.

لذا فإن حساب التكلفة سيجعل الأطراف الدولية والمحلية تلجأ إلى العملية السياسية حتى تقلل تكلفة الحرب والدخول في النزاع مجدداً، وهذا ما حدث في كثير من الدول مثل ليبيريا النموذج الأبرز للحروب الأهلية في انتخابات عام 1996 وعام 2003، وفي نيجيريا كذلك كانت انتخابات عام 1991 مرحلة حاسمة، لذا فإن هذه موجات العنف التي يسبقها اتفاقات سياسية أو عملية انتخابية جعلت علماء النزاعات يتحدثون عن الحرب الأهلية الأولى والثانية؛ لذا فليبيا الآن في هذه المرحلة إذا أحببنا المقارنات التاريخية.

ثانياً، بناء سردية الحرب سيكون صعباً جداً على أي طرف، فلو تتبعنا الحروب التي جرت في ليبيا فإن سردية الحرب كانت هي المحرك لهذا النزاع الدامي.

فسردية الإرهاب في بنغازي ودرنة جعلت الحرب ممكنة بالنسبة للانقلابي حفتر وداعميه، وربما حاول حفتر أن يستمر بهذه السردية حتى في حربه على طرابلس، لكن شرعية حكومة الوفاق ومعرفة القوى الدولية بالكتائب المسلحة في طرابلس في حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي أفشل هذا السرد ولم يكن بالإمكان إقناع أحد بأن هذه الحرب المعلنة على مؤسسات الدولة هي حرب على الإرهاب.

الآن وبعد هذا المزاج الذي خلقته حكومة الوفاق بتركيزها على احتياجات الناس، ورفع معاش المعلمين مثلاً، أو منح منحة للزواج تقدر بـ40 ألف دينار ليبي أي حوالي 8 آلاف دولار أمريكي، أو 64 ألف ليرة تركية، فضلاً عن التواصل الدائم مع النازحين وشيوخ القبائل، والحديث المتكرر عن التنمية؛ هذه السردية التي اختصرها رئيس الوزراء بقوله "أريد لكم أن تقيموا أفراحاً بدل خيم العزاء" غيرت النموذج الحاكم الذي يمسك بالسلطة.

لذا فإنه من الطريف ذكر أن حفتر سلّم بعد ذلك مهام القائد العام لعسكري آخر وأعلن أنه سيعطي أسر الشهداء مبلغ 100 ألف دينار ليبي أي حوالي 20 ألف دولار أمريكي. بين هذا وذاك سنجد أسماء أخرى تسعى إلى الانتخابات منها وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا ورئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك، كما أن عدد الأحزاب قد يصل الآن إلى مئة حزب، وأعداد المسجلين في الانتخابات فاقت 2 مليون ناخب وهي نسبة تقدر بـ43% من إجمالي الناخبين، هذا دون حساب الناخبين خارج ليبيا وهم يقدرون بأكثر من مئتي ألف ناخب.

ثالثاً، الضغط الدولي المستمر تجاه الانتخابات. فالقوى الدولية كافة تحث على إجراء الانتخابات في موعدها، ومؤخراً كانت زيارة قائد قوات الأفريكوم للمجلس الرئاسي وتأكيده خروج المرتزقة من ليبيا من قوات فاغنر وإجراء الانتخابات في موعدها رسالة أخرى تؤكد أن هذا المسار الانتخابي في طياته جانب عسكري يريد منع نشوب حرب عن طريق اللجوء إلى الانتخابات، لذا فإن أفريكوم ستحضر اللقاء الذي سيجرى بين المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب في المغرب للتوافق حول الانتخابات، بعد أن أعلن رئيس البعثة الأممية إلى ليبيا غوتيريس قلقه الشديد حيال عدم الوصول إلى اتفاق بين الأطراف الليبية. لذا فإنه يمكن القول بأن استمرار الضغط سيزداد ليس لإجراء الانتخابات بل لمعرفة ما القانون الانتخابي الذي سيعطي لهذه الدول القدرة على توقع نتائجها؟ وفيما يبدو أنها ستكون انتخابات رئاسية وبرلمانية وربما لو استمر الخلاف ستكون انتخابات برلمانية يتبعها انتخابات رئاسية بعد الاتفاق على قاعدة دستورية.

إن تغير نمط الأزمة الليبية ظاهر في المظاهرات التي خرجت في مدن ليبية عدة، بعد صمت من الشارع الليبي لسنوات، وإن هذا المسار المتفائل الذي يمكن تلمسه في كل حي وفي كل شارع، وفي شوارع العاصمة المزدانة بالزهور وعمال النظافة قد تعني أن واقعاً جديداً يمكن أن يخلق في ليبيا بعد أن قالت بالبنادق كلمتها، فإن عادت تلك البنادق فلأنها قادرة على الخراب والدمار لكنها لن تستطيع بحال من الأحوال أن تبني شيئاً لذا فإنها ستعود صاغرة إلى منطق السياسة وتصميم النظم السياسية، ففوهات البنادق لا تصنع الدول، وعد الرؤوس خير من قطعها.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي