العلمين التركي (يمين) والأرميني (يسار) (Others)
تابعنا

من خلال لمحة سريعة على تاريخ العلاقات بين البلدين، نجد أنه طالما كانت هنالك محاولات للتطبيع من قبل الطرفين، وبوادر حسن النية لا سيما من قبل تركيا منذ عام 2008، إلا أنها باءت بالفشل، وذلك لسببين رئيسين: الأول يتعلق بموقف أرمينيا من مزاعم "إبادة الأرمن" في عهد الدولة العثمانية عام 1915، والثاني يتعلق بموقف أنقرة من احتلال أرمينيا لإقليم قره باغ الأذربيجاني.

ما يجعل بوادر التطبيع الحالية مختلفة عن السابق، وتتمتع بفرص أقوى للنجاح، هو انتهاء الاحتلال الأرميني للأراضي الأذربيجانية في قره باغ، بعد الانتصار الذي حقّقَته أذربيجان بدعم كبير من أنقرة خريف العام 2020.

لقد استطاع هذا التطور القضاء على العائق الذي كان يقف أمام أنقرة من أجل تطبيع علاقاتها مع يريفان، وهو الذي كان دفع بأنقرة عام 1993 إلى إغلاق حدودها البرية والجوية مع أرمينيا، والإصرار على سحب قوات الاحتلال الأرميني من الأراضي الأذربيجانية كشرط لإعادة فتحها.

وحينما حاولت أنقرة بمساعٍ خاضها رئيس تركيا السابق عبد الله غل، ووزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو، فتح صفحة جديدة مع أرمينيا في ضوء الانفتاح التركي على دول المنطقة في ذلك الحين، واجهت هذه الخطوة معارضة أذربيجانية واضحة فضلاً عن معارضة أوساط تركية في الداخل لا سيما "القوميين"، والوضع ينطبق كذلك على الداخل الأرميني، الأمر الذي جعل مثل هذه المحاولات تنتهي وهي خالية الوفاض.

ترحيب البلدين بمساعي التطبيع الحالية

بما أن الاحتلال الأرميني للأراضي الأذربيجانية كان هو العائق بالنسبة إلى أنقرة أمام تطبيع العلاقات، وقد زال الآن، فإن إعادة الحديث عن محاولة جديدة لتطبيع العلاقات بات ممكناً أكثر من أي وقت مضى، وبدعم وحضور أذربيجاني كذلك.

وهو ما تم بالفعل، وبفضل مؤشرات إيجابية أتت من الجابين على حد سواء، ففي سبتمبر/أيلول 2021، صرّح رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان بأن "تطبيع العلاقات بين يريفان وأنقرة ممكن"، تعليقاً على تصريحات مماثلة صدرت عن الرئيس أردوغان قبل وقت قصير من ذلك الحين.

وفي الحقيقة، أن مما يشجع على القول بأن بوادر التطبيع هذه المرة أقوى مما كانت عليه سابقاً، التطور الإيجابي المتسارع، فبعد شهرين ونيف من تصريحات إيجابية متبادلة بين البلدين وسماح أرمينيا لأذربيجان باستخدام مجالها الجوي، أعلنت وزارة الخارجية الأرمينية منتصف ديسمبر/كانون الأول 2021، تعيين ممثل خاصّ لها في تركيا، هو نائب رئيس البرلمان الأرميني روبين روبينيان.

وفي المقابل أعلنت تركيا تعيين سفيرها السابق في واشنطن سردار كلينج، ممثلاً خاصّاً من أجل تطبيع العلاقات مع أرمينيا، ومن ثم اتفق الجانبان على إجراء أول جلسة بين البلدين في العاصمة الروسية موسكو يوم 14 يناير/كانون الثاني الجاري.

دوافع التطبيع بين تركيا وأرمينيا

كانت تركيا من أولى الدول التي اعترفت باستقلال أرمينيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وأبدت رغبتها في تطوير العلاقات معها وطي صفحة الماضي، وكما هو معلوم فإن احتلال أرمينيا لإقليم قره باغ في ذلك الوقت بدّد أي خطوة نحو الأمام على صعيد العلاقات بين البلدين.

من الواضح أن أنقرة لست متمسكة بخيار القطيعة وإغلاق الحدود برّاً وجوّاً مع أرمينيا، بل تبدو أكثر حماساً من الأخيرة لفتح صفحة جديدة وبدء مرحلة يستفيد فيها الطرفان، فأنقرة تنظر إلى منطقة جنوب القوقاز بأهمية بالغة، وتسعى لتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بينها وبين دول هذه المنطقة، وتنشيط حركة وخطوط النقل البرية والجوية، مما يعود على المنطقة بأسرها بالفائدة.

إضافة إلى ذلك، فإن تركيا تسعى من خلال تطبيع علاقاتها مع أرمينيا، إلى سماح الأخيرة لفتح خط بري يربط بين أذربيجان وجمهورية نخجوان الأذربيجانية ذاتية الحكم التي تفصل أرمينيا بينها وبين أذربيجان، لا سيما وأن هذا الخط من شأنه أن يفتح أذربيجان على تركيا أيضاً بشكل مباشر عبر نخجوان مروراً بالأراضي الأرمينية، مما يمنح هذا الطريق أهمية بالغة بالنسبة إلى تركيا ومنطقة جنوب القوقاز ووسط آسيا عموماً.

لا يبدو أن تركيا مطمئنَّة إزاء محاولات روسيا الهيمنة على المشهد ضمن مرحلة ما بعد الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، عبر عقد اتفاقية إنهاء الحرب بين البلدين في موسكو ولقاء زعيميهما أكثر من مرة هناك بحضور الرئيس الروسي بوتين، لا سيما مع وجود ضغوط روسية تمارسها موسكو على أرمينيا يمكن أن تتحكم بقرارات الأخيرة، وهذا نلحظه عبر رغبة أرمينيا الملحّة في عقد محادثات التطبيع الأولى مع تركيا في العاصمة الروسية موسكو.

ولذلك أكدت أنقرة عبر وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو، أنه عقب هذه المحادثات ستدخل أنقرة في محادثات مباشرة مع أرمينيا دون وسيط ثالث، بمعنى آخر دون تدخُّل أو حضور روسي.

أما أرمينيا، فهي في حقيقة الأمر أكثر حاجة من أنقرة إلى تطبيع العلاقات، بسبب وضعها الاقتصادي المتدهور أصلاً، وزاده تدهوُراً تداعيات جائحة كورونا من جهة وخسارتها الحرب في قره باغ أمام أذربيجان من جهة أخرى.

كما تدرك أرمينيا أن إحياء علاقاتها مع تركيا سيعيد تنشيط القطاع السياحي والتجاري، ويُنعش اقتصادها المتدهور، بخاصة من خلال إعادة تنشيط خطوط النقل البرية بين مدن البلدين.

عامل آخر يتعلق بالوضع السياسي الداخلي في البلاد، فإدارة رئيس الوزراء الأرميني باشينيان ترغب في علاقات أقوى مع الغرب الذي يرى أن تقدم العلاقات بين تركيا وأرمينيا يعوق هيمنة روسيا على منطقة جنوب القوقاز، لذلك كانت روسيا مهتمَّة بأن تجري محادثات التطبيع من خلالها، مما يجعل أرمينيا تنظر إلى هذه الخطوة كفرصة من أجل إنعاش علاقاتها مع الغرب والتخلص من الهيمنة التقليدية الثقيلة لروسيا، وهذا ما يفسر ربما الترحيب الشديد من قبل الولايات المتحدة وأوروبا بخطوات التقارب بين تركيا وأرمينيا.

عوائق التطبيع بين البلدين

في الواقع يبدو أن تركيا وأرمينيا على حد سواء ترغبان بشدة أكثر من أي وقت مضى في تحقيق خطوة نحو الأمام وفتح صفحة جديدة، وإعادة فتح الحدود المغلقة منذ نحو 30 عاماً.

وحين التفكير في ما يمكن أن يهدّد هذه المحاولة ويجعلها تواجه مصير سابقاتها، تبرز مسألة مزاعم إبادة الأرمن على رأس العوامل التي يمكن أن تعوق بالفعل خطوات التطبيع بين البلدين.

نجد أن المجتمع الأرميني معبَّأ بمشاعر العداء إزاء تركيا، وجزء كبير من المعارضة الأرمينية لم يرحب بتصريحات باشينيان وتحركاته من أجل التطبيع مع أنقرة، لكن ليس معلوماً إلى أي مدى يمكن أن يمثل موقف المعارضة الأرمينية عائقاً أمام ذلك، بخاصة أن الوضع الاقتصادي في البلاد آخذ في التدهور، وقد جعل أرمينيا الدولة الأفقر على مستوى جنوب القوقاز.

على صعيد آخر، تهتمّ أنقرة بشدة بفتح خط برِّي يصل بين أذربيجان وجمهورية نخجوان ذاتية الحكم وصولاً إلى تركيا، وبما أن هذا الخط يمرّ عبر الأراضي الأرمينية فإن تركيا تشترط موافقة أرمينيا على فتح هذا الخط من أجل إتمام مسار التطبيع دون عوائق.

أخيراً، فإن المحادثات تنطلق اليوم الجمعة بين الجانبين في موسكو عبر الممثلين الخاصّين للبلدين، ومن المتوقع أن يتفق الجانبان على خارطة طريق لمسار التطبيع، ويقدما وجهات نظر بلديهما في هذا الخصوص، ومن المؤكد أن المحادثات القادمة حينما تكون مباشرة بلا وسيط يمكن أن تسفر عن نتائج ملموسة وسريعة التطبيق.


جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.


TRT عربي
الأكثر تداولاً