تابعنا
تبدو عملية إعادة تشكيل النظام السياسي العراقي المتجذرة منذ 17 سنة صعبة جداً، لكن ليست مستحيلة. خصوصاً أن خيارات الكاظمي وفريقه الحكومي محددة بأطر النفوذ والصراع الإقليمي والدولي، لكنها بلا شك إحدى خطوات معركة استعادة الدولة من حالة الفوضى إلى البناء.

يبدو أن دورة البيئة السياسية في العراق تعاود التكرار مرة أخرى في الانتقال من حالة الفوضى إلى الفوضى الخلّاقة، التي تَتَجدد مع كل دورة انتخابية أو حدث محوري. حيث تعجز النخب السياسية عن إصدار وجوه جديدة فضلاً عن مشروع سياسي حقيقي قادر على إدارة الدولة وإخراجها من عنق الأزمات إلى مسار الإصلاحات.

فهل سيستطيع الكاظمي كسر النمطية المتكررة في المشهد السياسي العراقي، والانتقال إلى حالة جديدة تكون فيها القوى الحالية أقل نفوذاً، أم إنها مجرد محاولة لكسب المزيد من الوقت؟

عند استرجاع شكل التحول في البيئة السياسية خلال فترة حكم الجعفري (أبريل/نيسان 2005-مايو/أيار2006) انتقالاً إلى فترة حكم المالكي الأولى (2006–2010)، استشعر العراقيون تحولاً ملحوظاً من انتشار الطائفية الدموية إلى الطائفية على مستوى الدولة. حيث استطاع المالكي استعادة الأمن نسبياً وتقليل حالات القتل الطائفية، وتحييد المجاميع المسلحة مثل جيش المهدي، أو تقنينها وتطويعها مثل عصائب أهل الحق، واستطاع بناء نفوذه في أجهزة الدولة المختلفة، وما باتَ يعرف بالدولة العميقة حالياً.

لكن ذلك لم يمنع المالكي من استخدام أدواته القمعية ضد كل شركائه السياسيين والمكون السني، والفترة التي تلت انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011 كانت عودة إلى بيئة الفوضى المفتوحة على نطاق كبير، إضافة إلى انتشار الفساد الإداري على مستويات كبيرة في مؤسسات البلد، وصلت به إلى نقطة حرجة هددت كيان الدولة وزعزعت الجغرافية السياسية للمنطقة برمتها، والنقطة الحرجة كانت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على ثلث أراضي البلد.

وربما تشبه البيئة السياسية الحالية المجلس الانتقالي الذي كان يترأسه إياد علاوي في 2004، وجاءت دعوة السيستاني في حينها لانتخابات مبكرة في 30 يناير/كانون الثاني 2005 بالتعاون والتنسيق مع الأمم المتحدة. وهنا يفترض الكاتب تشابه دورتي البيئة السياسية السابقة والحالية.

شكلت عملية تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة العراقية نقلة نوعية في مسار الفوضى المفتوحة التي عاشها العراق بعد مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 2019، واغتيال سليماني والمهندس مطلع العام 2020. كما أن وجود الكاظمي في رئاسة الحكومة شكل أحد تحولات البيئة السياسية العراقية السائدة منذ العام 2003، إذ تشهد هذه البيئة خروجاً عن النسق التقليدي المرتبط بهيمنة القوى الإسلامية الشيعية على رئاسة الحكومة العراقية.

استطاع الكاظمي تخفيف حدة التوتر الأمني واحتواء الاضطرابات، مستثمراً بذلك دعم متظاهري ساحة التحرير في بغداد، ومساندة القوات الأمنية العراقية وأهمها جهاز مكافحة الإرهاب التي أصبحت أداته المفضلة.

كانت حكومة عادل عبد المهدي مثالاً للتخبط الواضح في إدارة الدولة وفقدان الرؤية السياسية والتنسيق الأمني والإصلاحات الاقتصادية. كل ذلك وأكثر كانت كاريزما السيد عادل عبد المهدي هي الأكثر فشلاً واستفزازاً لمشاعر الشعب العراقي، من حيث حضوره الإعلامي وطريقة كلامه وتفسيراته للأحداث الملتهبة في الساحة العراقية. كان عبد المهدي يتكلم بوردية عالية غير واقعية ولا تتطابق مع سوداوية الواقع العراقي.

وهنا تبرز الفرصة التي حظيَ بها الكاظمي، حيث كانت وسائل الإعلام تروج له قبل ترشحه للمنصب، كما أن لديه شبكة واسعة من الإعلاميين والصحفيين الذين ساهموا في صناعة الرأي العام العراقي في مصلحته، وتصويره بأنه رجل المرحلة القريب من أمريكا الذي سوف ينقذ العراق من النفوذ الإيراني. بالإضافة إلى علاقاته الواسعة داخلياً وخارجياً والتي مكنته من الحصول على تأييد واسع، على خلاف المرشحين اللذين سبقاه "محمد علاوي، عدنان الزرفي".

استطاع الكاظمي من خلال خبرته استخدام الظهور الإعلامي الفعال في بناء رمزية تناسب متطلبات القائد في مخيلة العقل العراقي، اختياره الدقيق لكادره الإداري من المستشارين، والإعلاميين النافذين، حتى مصوره الشخصي الذي أصبح مشهوراً بسبب زوايا لقطاته الفنية. كما استطاع تقريب عديد من القيادات الأمنية المهمة ذات الشعبية الكبيرة مثل عبد الوهاب الساعدي، وعبد الغني الأسدي.

كل ذلك صنع هالة كبيرة من الاهتمام المحلي والعالمي حول الكاظمي، أعطته الدافع والجرأة للقيام بتغييرات في بنية الدولة التي تديرها الأحزاب الحاكمة.

من جانب آخر دخل البيان الأخير لمرجع الدين الكبير علي السيستاني، كمتغير مؤثر في المشهد السياسي، وبدا خطاب السيستاني موجهاً بشكل واضح للكاظمي، قائلاً: "إن الحكومة الحالية مطالبة بالاستمرار والمضي بحزم في تطبيق العدالة الاجتماعية، والسيطرة على المعابر الحدودية، وتحسين أداء القوات الأمنية، وفرض هيبة الدولة، وسحب السلاح غير المصرح به.."، وهذه اللغة من الخطاب لم تُسمع خلال السنوات الماضية للحكومات التي سبقت الكاظمي. فهو بذلك يحظى بدعم أعلى سلطة دينية شيعية، فضلاً عن قطاع كبير من المتظاهرين والمجتمع الدولي.

يعتبر السيستاني رقماً مهماً في المعادلة السياسية العراقية والإقليمية، لأن هناك نزاعاً بين النجف وقم، وهناك نزاع بين الشيعة الذين يتبعون النجف والشيعة التابعين للولي الفقيه. ويعتبر السيستاني ليس مؤيداً لفكرة الإسلام السياسي الشيعي والجهادي. ولأن الأطراف السياسية والمليشيات القريبة من إيران ترفض إجراء الانتخابات وفق المطالبات الشعبية والدولية، لذلك جاء لقاء السيستاني بممثلة الأمم المتحدة ليدفع باتجاه الانتخابات المقررة، في تثبيت خطوات التغيير أو الانقلاب التدريجي في شكل المشهد السياسي.

كما أن بيان السيستاني كان محفزاً لخطوات الكاظمي، وكان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قد أعلن أنه يخطط لتنظيم انتخابات مبكرة في يونيو/حزيران 2021، وأطلق حملة لفرض سيطرة الدولة على المعابر الحدودية ومحاربة المليشيات والأحزاب السياسية المستفيدة من الفساد في هذه المنافذ. كما أطلق حملة أمنية لسحب الأسلحة غير المشروعة من المحافظات الجنوبية. وزيارته الأخيرة إلى أربيل ولقائه قادة حكومة إقليم كردستان، وضعا حلولاً نهائية للمشاكل العالقة وإيجاد صيغة تفاهم سياسي مشترك.

وبعد بيان السيستاني الأخير أجرى الكاظمي تغييرات واسعة في مناصب رفيعة بالدولة العراقية شملت تسع هيئات مستقلة وثمانية وكلاء في مناصب أمنية حساسة.وعلى الرغم من أن بعض تغييرات الكاظمي لم تخلُ من المحاصصة الطائفية ومغازلة بعض القوى السياسية، فإن ذلك أثار حفيظة القوى أكبر القوى السياسية الشيعية منتقدةً هذه التغييرات ووصفتها بعودة المحاصصة الطائفية، وأنها غير مسؤولة عنها.

هذه الإرهاصات تؤشر إلى بداية التحولات (النسبية) في صيغة المشهد السياسي العراقي، وأن مسار الكاظمي بدأ بالافتراق تدريجياً عن مسار القوى الشيعية التي رشحته وفقاً لتفاهمات سابقة.

هذه الإرهاصات الحالية سوف تنتقل طبيعياً للبرلمان القادم في حال تمت الانتخابات القادمة، وقد يصبح الانقسام الشيعي الشيعي أكثر حدة.

الكاظمي بدأ ينتقل تدريجياً من فوضى المليشيات المفتوحة إلى صراع مع أصحاب السلطة، بعد أن كانت السلطة مركزة بيد نخبة حاكمة. إذ يسعى الكاظمي حالياً لإحلال نخبة مكان نخبة بشكل تدريجي. ويقوم بذلك بخطوات حذرة، من خلال إحلال نخب الوظيفة مكان نفوذ الأحزاب. وتعتبر هذه نقطة لمصلحته، قد تساهم في التأثير على شكل النظام السياسي في المستقبل القريب خصوصاً في الانتخابات القادمة.

وقد تكون أحد عوامل نجاح الكاظمي القادمة في ابتعاده عن الاستقطاب الداخلي، بين أحزاب السلطة، وبين المليشيات والمحتجين. والاستقطاب الخارجي والإقليمي، بين إيران والولايات المتحدة، وبين إيران ودول الخليج. كما أن الكاظمي يبدو غير مستعجل الحسم في عملية التغيير التدريجي في السلطة. فهي عبارة عن تغييرات فنية إصلاحية في مؤسسات الدولة ضد مؤسسات الدولة العميقة ونفوذ المليشيات، وقد تأخذ وقتاً طويلاً. لذا هو يستغل الثغرات والخلافات الحاصلة في بنية النظام السياسي، ويستخدم ارتدادات الأحداث الحاسمة في إجراء تغييراته.

إلى جانب العوامل السابقة، لم يكن مُقدّراً لهذه التغييرات أن تحصل لولا تعاظم زخم الحركة الاحتجاجية لثورة أكتوبر/تشرين الأول التي بدأت العام الماضي. وإن ظهور جيل جديد من الشباب العراقي لا يمكن لأي من الجماعات الاجتماعية والسياسية الحالية احتواؤه بالكامل، أعطى مؤشر إنذار حقيقياً بالخطر دفع الأحزاب الحاكمة إلى الرضوخ للإقدام على تنازلات حقيقية.

مع ترجيحات بأن تعاود التظاهرات نشاطها بقوة في ذكراها الأولى بعد أن توقفت نتيجة أزمة كورونا، وإفساح المجال للكاظمي بتنفيذ إجراءاته، ومن ضمنها الكشف عن هوية قتلة المتظاهرين وتقديمهم إلى العدالة. الأمر الذي يخلق فرصة أكبر للكاظمي لاستثمار هذا الزخم بتحقيق إنجاز في ملفَي الأمن ومكافحة الفساد، بفتح ملفات فساد تنال من زعماء أو مسؤولين كبار، وإحالتهم إلى المساءلة القانونية. والكشف عن قتلة هشام الهاشمي والمحتجين، وتحجيم تحركات المليشيات.

وقد تتحول عملية إعادة تشكيل النظام السياسي إلى حراك سياسي يقوده الكاظمي، خصوصاً مع الحديث عن احتمالية تنظيم المحتجين لصفوفهم في كيان سياسي والدخول في الانتخابات القادمة.

ختاماً، تبدو عملية إعادة تشكيل النظام السياسي العراقي المتجذرة منذ 17 سنة صعبة جداً، لكن ليست مهمة مستحيلة. خصوصاً أن خيارات الكاظمي وفريقه الحكومي محددة بأطر النفوذ والصراع الإقليمي وحتى الدولي، لكنها بلا شك إحدى الخطوات في معركة استعادة الدولة من حالة الفوضى إلى حالة بدء البناء.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً