وتتسلّل مخاوف التهجير إلى بيوت دافئة بُنيت بتعب المقدسيين لعقود طويلة، واتكأ بعضها على بعض لتشكل حياً شعبياً شهيراً يكمل بجماله فسيفساء أحياء البلدة التي تُعرف بالحامية الجنوبية للمسجد الأقصى المبارك، وربما لهذا السبب تحديداً تحوّلت إلى هدف دائم للجمعيات الاستيطانية، يد الاحتلال الأولى في تهجير المقدسيين، لكن حي بطن الهوى بالتحديد له قصة مختلفة.
اعتاد المقدسيون أدوات الاحتلال المبتكرة والمتجددة التي تُشرعَن خصيصاً لتهجيرهم، وكانت الحجة الأبرز للتهجير الضمني في القدس هي "البناء دون ترخيص"، في ظل تراخيص بناء لا تُمنَح أصلاً للفلسطينيين إلا في حالات نادرة وبعد مسار معقّد وطويل.
هذه المعضلة تواجه معظم أحياء بلدة سلوان، لكن حيّ بطن الهوى لم يواجه حجج البلدية المعتادة، بل كانت هذه المرة حجة جديدة، إذ فوجئ الأهالي بقضيةٍ رُفعت ضدهم، تدّعي فيها جمعية استيطانية ملكية الأرض منذ أكثر من قرنٍ ونصف.
بطن الهوى.. منازل على موعد مع التهجير
بدأت الحكاية عام 2015، حين رفعت جمعية عطيرت كوهانيم الاستيطانية دعوى قضائية ضد عشرات العائلات الفلسطينية في حيّ بطن الهوى ببلدة سلوان، بدعوى أن الأرض المقامة عليها منازلهم تعود لليهود اليمنيين منذ القرن التاسع عشر.
ومنذ ذلك الوقت يعيش أهالي الحيّ في دوامة من الجلسات والمماطلات داخل المحاكم الإسرائيلية التي بدا أنها تعمل على إطالة الوقت حتى تثبيت قرار التهجير.
يقول يعقوب الرجبي، عضو لجنة الدفاع عن حي بطن الهوى وأحد المهددين بالتهجير، لـTRT عربي: "بطن الهوى هو حي سكني يضم نحو 14 عائلة كبيرة، تحتضن 84 أسرة، بما يشكل نحو 700 شخص، وهُم كلهم بانتظار التهجير في أي لحظة، ومعظمهم لا يملكون بديلاً ولا يستطيعون استئجار بيت آخر بسبب الغلاء والوضع الاقتصادي الصعب. في حال تنفيذ الإخلاء، فالمئات سيبقون بلا مأوى".
وفي تسارع غير مسبوق، أصدرت محكمة الاحتلال المركزية قرارات إجلاء نهائية بحق أكثر من 120 مقدسي من منازلهم في حي بطن الهوى ببلدة سلوان خلال 17 يوماً فقط، من شهر أيلول/سبتمبر الماضي، آخرها قرارات إجلاء بحق عائلات الرجبي والشويكي وعودة من 6 شقق يسكنها نحو 30 فرداً، سبقها قرار بإخلاء 3 مبانٍ سكنية تعود لعائلة الرجبي في حي بطن الهوى، علماً بأن قراراً مشابهاً صدر في 13 سبتمبر/أيلول الماضي لعائلتَي بصبوص والرجبي من 10 شقق سكنية في الحي.
ويضيف الرجبي أن الاحتلال استغل الحرب الأخيرة لتسريع إجراءات التهجير، قائلاً: "بدأ التهجير الفعلي قبل عام تقريباً، وكانت البداية مع عائلتَي شحادة وغيث، فبعد السابع من أكتوبر 2023 فعّل الاحتلال كل القضايا وسرّع القرارات، وتسلمنا جميع الإخطارات النهائية بعد هذا التاريخ".
ورغم تقديم المقدسيين استئنافات متكررة، رفضت المحكمة المركزية التابعة للاحتلال معظمها، بينها استئنافات عائلات شويكي وعودة والرجبي منتصف عام 2025، وأصدرت قرارات إخلاء نهائية في غياب الأهالي ومحاميهم، ما زاد مخاوف سكان الحي المهددين بالمصير نفسه.
وعن خصوصية الحي، يشرح الرجبي: "سلوان كلها مستهدفة بعمليات هدم، لكن بطن الهوى مختلف، فهنا القضية ليست هدماً بل إخلاء واستيلاء على المنازل".
ويرى الأهالي أن ما يجري يشبه تماماً ما حدث في حي الشيخ جراح، حيث لا يتعلق الأمر ببيع أو تسريب أو بناء دون ترخيص، بل بعملية تهجير قسري منظمة، تحت غطاء قانوني استيطاني. وفي ظل تمسك الجمعيات الاستيطانية بحق الوقف لليهود، تناسى الاحتلال حي المغاربة الذي وهبه صلاح الدين الأيوبي لأهالي المغرب المسلمين وقفاً خالصاً لهم، وكان هدمه أُولى المجازر في حرب النكسة على يد جيش الاحتلال.
أما عن واقع العائلات في الحي اليوم، فيتابع الرجبي: "المواطنون هنا بانتظار التهجير في أي لحظة. معظمهم لا يملكون بديلاً ولا يستطيعون استئجار بيت بسبب الغلاء والوضع الاقتصادي الصعب، كثيرون سيبقون بلا مأوى. أما المحكمة فقد عيّنت قاضياً من مستوطنة بيتار عيليت المقامة على أراضي نحّالين وحوسان غربي بيت لحم، فكيف سيحكم لنا وهو مستوطن بالأساس؟".
إحدى العائلات المهددة بالتهجير هي عائلة الشهيدين زهري ونزار شويكي، اللذين ارتقيا في عامَي 1999 و2000. تسكن في المنزل والدتهما أسمهان، التي لا ملجأ لها سوى بيتها، ذاك الذي عاشت فيه منذ زواجها، وأنجبت فيه خمسة أبناء وابنتين، ثم زوّجتهم، قبل أن تفقد ابنيها شهيدين، ويلحق بهما والدهما حزناً عليهما.
بقيت أسمهان في منزلها المطل على المسجد الأقصى، تحرسه وتستعيد ذكرياتها مع أبنائها وأحفادها الاثنين والعشرين.
تقول شويكي لـTRT عربي: "ماذا سأقول؟ شعوري صعب... صعب جداً. بقي نحو أسبوعين فقط على الإخلاء، وأنا أبكي يومياً في الصالة والمطبخ والغرفة والحمّام. لا أستطيع أن أتصور كيف سأترك منزلي وأخرج منه. وأيّ تعويض هذا؟ لن نقبل بتعويضات. اليوم لا مأوى لي، وكل بيت للإيجار في المنطقة كلفته مرتفعة جداً، تصل إلى نحو 5 أو 6 آلاف شيكل (أي ما يعادل 1470 – 1700 دولار)".
الحوض المقدس هو الهدف الأكبر
يقول رئيس لجنة الدفاع عن أراضي سلوان، فخري أبو دياب، لـTRT عربي، وهو من ضحايا سياسة الهدم في سلوان: "حيّ بطن الهوى أحد أحياء سلوان المهددة بالتهجير، وميزته أنه قريب من المسجد الأقصى، ومحاصرة الأقصى هي أحد أهداف الجمعيات الاستيطانية التي تسعى لتحقيقه عبر الاستيلاء على الأحياء المقدسية وتشريد أهلها".
وعن الجمعيات الاستيطانية يقول: "تقاسمت الجمعيات الاستيطانية مهمة الاستيلاء على محيط المسجد الأقصى؛ فبعضها تسلّم المنطقة الوسطى، وبعضها تسلم المنطقة الشرقية. كما تقاسمت هذه الجمعيات مهمة التهجير مع مؤسسات الاحتلال مثل البلدية، وكل جهة تكمل الأخرى في السيطرة والتهجير، لكن بطرق مختلفة".
وبالحديث عن الهدف الأكبر وراء التهجير، يقول أبو دياب: "أحد أهم المشاريع الاستيطانية التي يسعى الاحتلال لتنفيذها بعد تهجير أهالي سلوان، ومنهم أهالي حي بطن الهوى، هو مشروع الحوض المقدس. فبحسب مخططهم لإقامة الهيكل، يجب إتمام عدة أمور في محيط المكان، منها إقامة مرافق للهيكل كالقصور الأموية ومواقع لذبح البقرات".
ويضيف أبو دياب: "بحسب روايتهم، بعد استكمال هذه الخطوات يمكنهم بناء الهيكل. وهنا لا نتحدث عن محاولة لتقسيم المسجد الأقصى مكانياً وزمانياً فحسب، بل عن مسعى لإزالته تماماً وبناء الهيكل مكان قبة الصخرة المشرفة".
الاستيطان يتمدّد والعدالة الدولية غائبة
بدأ الاستيطان في بطن الهوى عام 2004 ببؤرة بيت يوناتان، ثم تسارعت وتيرته ليرتفع عدد البؤر من 6 عام 2014 إلى نحو 12 في 2022، على حساب أكثر من 20 عائلة فلسطينية هُجّرت من منازلها.
كما استولت جمعية عطيرت كوهانيم على عقارات وحوّلتها إلى مراكز استيطانية، بينها بيت العسل الذي أقيم عام 2017 في عقار آل أبو ناب بزعم أنه "كنيس يهودي قديم".
وفي 2024، استولى المستوطنون على نحو دونمين ونصف من أراضي الحي بادعاء أنها "أملاك يهودية"، رغم امتلاك العائلات الفلسطينية وثائق رسمية تثبت ملكيتها.
واعتبرت الأمم المتحدة هذه الممارسات انتهاكاً للقانون الدولي الذي يحظر الطرد القسري وفرض قوانين الاحتلال، مشيرة إلى أن قوات الاحتلال دمّرت خلال عام 2024 نحو 219 مبنى في القدس الشرقية، ما أدى إلى تهجير 582 فلسطينياً.
















