تابعنا
في ظل المجازر اليومية المستمرة التي يرتكبها الاحتلال في غزّة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تأتي الذكرى الـ28 لمجزرة قانا الأولى عام 1996، التي أُزهقت فيها أرواح عشرات المدنيين اللبنانيين الذين احتموا بمركز لقوات حفظ السلام الأممية.

كأن اليوم مطابقاً للأمس؛ إذ تستمر آلة القتل الإسرائيلية في ارتكاب جرائمها ضد كل شعب احتلّت أراضيه، وفي وقت يواصل فيه جيش الاحتلال مجازره الدموية اليومية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، مزهقاً أرواح ما يقارب 34 ألف شهيد ونحو 77 ألف مصاب، تأتي الذكرى الـ28 لمجزرة قرية قانا اللبنانية، مذكِّرةً بالوحشية الإسرائيلية المتحدية لأي قانون دولي أو مواثيق إنسانية.

وتعد مجزرة قانا، التي ارتُكبت عام 1996، إحدى أكثر المذابح دموية التي شهدتها الحرب الإسرائيلية على لبنان طوال تاريخ تلك الحرب، راح ضحيتها العشرات من المدنيين اللبنانيين، كانوا لاجئين للاحتماء بأحد مقرات قوات حفظ السلام الأممية جنوب البلاد، وإلى اليوم تتملص إسرائيل من أي محاسبة عن هذه الجريمة البشعة.

في سياق "عناقيد الغضب"

أتت مجزرة قانا الأولى في سياق عدوان شنته إسرائيل على الشعب اللبناني، الذي كان يقاوم لتحرير جنوب بلاده من احتلال كان يمتد إلى 14 عاماً وقتها، وفي 11 أبريل/نيسان 1996، أطلقت إسرائيل عملية عسكرية خاطفة سمّتها "عناقيد الغضب"، وبرَّرتها بضرورة ضرب القدرات العسكرية للمقاومة اللبنانية التي كانت تستهدف أراضيها.

وقبل ذلك، في 30 مارس/آذار 1996، هاجم جيش الاحتلال الإسرائيلي أشخاصاً كانوا يعملون في برج للماء في بلدة يافر اللبنانية، مما أدى إلى استشهاد اثنين منهم، وسعى جيش الاحتلال إلى التملص من مسؤولية ذلك الهجوم، معتبراً أنه "وقع بالخطأ"، وردّ حزب الله بإطلاق 20 صاروخَ كاتيوشا باتجاه شمال إسرائيل.

وبعدها انفجرت قنبلة إسرائيلية أدت إلى مقتل طفل لبناني بعمر 14 عاماً، وإصابة ثلاثة آخرين، في قرية برعشيت اللبنانية، وهو ما انتقم الحزب له، بإطلاق 30 صاروخاً باتجاه شمال إسرائيل في 9 أبريل/نيسان من العام ذاته.

وفي 11 أبريل/نيسان، أعلنت إسرائيل انطلاق هجومها على المقاومة اللبنانية، وقصف جيش الاحتلال مواقع للمقاومة اللبنانية والجيش السوري، كما استهدف منشآت حيوية للبلاد؛ كمحطة الطاقة في منطقة الجمهور، وحصرَ بحرياً مرافئ مدن بيروت وصيدا وصور.

وقد خلّف هجوم "عناقيد الغضب"، خلال ستة عشر يوماً من استمراره نحو 175 شهيداً و351 جريحاً، معظمهم من المدنيين، وألقى بأكثر من 300 ألف لاجئ لبناني إلى الشارع، وخلاله ارتُكبت مجزرة قانا الوحشية.

أبشع مجازر الاحتلال في لبنان

ومع دخول العدوان الإسرائيلي على لبنان يومه الثامن، وتحديداً في 18 أبريل/نيسان، وما لحق ذلك من احتدام المعارك والقصف المتبادل بين جيش الاحتلال والمقاومة، فرّ نحو 800 مدني من منازلهم للاحتماء بمركز قيادة قوات حفظ السلام الأممية "يونيفيل" في بلدة قانا، وكان يديره وقتها جنود من دولة فيجي.

وفي نحو الثانية ظهر ذلك اليوم، صوَّبت إسرائيل مدافعها نحو مركز القيادة التابع للأمم المتحدة، وقصفته بقنابل فسفورية، خلَّفت مجزرة بشعة أودت بحياة 106 مدنيين، وأصابت نحو 150 آخرين بجروح وعاهات متفاوتة الخطورة.

وفي تصريحات إعلامية سابقة له، وصف جميل سلامة، وهو أحد الناجين من المذبحة، اكتظاظ مقر الأمم المتحدة في قانا بالمدنيين النازحين، الذين كان غالبيتهم من الأطفال والنساء، حيث لم يكونوا يتوقعون استهداف الاحتلال للمقر، ليفاجأ الجميع بقصف إسرائيلي عليه باستخدام قذائف انشطارية وفسفورية. ويضيف سلامة: "كانت إسرائيل تخطط لضرب هذا المركز، (وبين ما استهدفوه) غرفة كانت كنيسة لقوات الطوارئ الفيجية، سقط فيها 54 شهيداً (...) وما زلت أتذكر الأجساد وهي تحترق بفعل الفسفور الأبيض وتتحول إلى رماد".

وهي الرواية نفسها التي رددتها إحدى الناجيات الأخريات، وتدعى نوال إسماعيل، إذ قالت لوسائل الإعلام إن المكان كان مزدحماً للغاية بالباحثين عن الأمان وكان معظمهم من النساء والأطفال، قبل استهدافه من جيش الاحتلال الإسرائيلي.

مَن مجرمو قانا؟

وهرباً كعادتها من المسؤولية القانونية والأخلاقية، قالت الحكومة الإسرائيلية إن القصف جاء بـ"الخطأ" وكان ناجماً "عن تحليل خاطئ للبيانات الميدانية"، كما أعربت عن أسفها لضياع أرواح المدنيين.

وصرّح شمعون بيريز، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها، بأن جيش بلاده لم "يعلم بوجود مدنيين في مقر الأمم المتحدة".

وهو ما فنّده بشكل كامل تقرير المستشار العسكري للأمين العام للأمم المتحدة اللواء فرانكلين فان كابين، الذي قال إن "نمط الإصابات في منطقة قانا يجعل من غير المرجح أن يكون قصف مركز الأمم المتحدة نتيجة أخطاء فنية أو إجرائية". فيما لم يكن استثنائياً خلال ذلك العدوان على لبنان، وهو ما يتكرر أيضاً في الحرب الأخيرة على غزة، استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي للمدنيين النازحين من الاقتتال، مما يؤكد أيضاً صفة التعمد في المذبحة ويفنّد السردية الإسرائيلية بخصوصها.

وفي هذا السياق، يشير الصحفي البريطاني روبرت فيسك في كتابه "رحم الله الأمة: اختطاف لبنان"، إلى استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي للنازحين خلال هجوم "عناقيد الغضب"، وقال: "كانت إسرائيل تطلق أكثر من 3000 قذيفة يومياً، و200 غارة صاروخية في اليوم على لبنان، ناهيك بقصف البوارج الحربية للطرق المكتظة بالنازحين".

وإضافةً إلى بيريز، كان نفتالي بينيت الذي سيتقلد منصب رئاسة وزراء إسرائيل عام 2021، الجزار الرئيسي لمذبحة قانا، إذ كان يقود وقتها الكتيبة 67 من وحدة النخبة 212 في جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي كان المنفّذ لقصف مقر قوات "يونيفيل" في قانا اللبنانية.

هذا وسعت الأمم المتحدة لاستصدار قرار بإدانة إسرائيل في ارتكاب هذه المجزرة، لكن الفيتو الأمريكي حال دون ذلك.

TRT عربي