تابعنا
مع انتشار الفقر والجوع في أكثر من بقعة من بقاع الأرض، واستمرار تفاقم أزمة المناخ، ونقص المياه، يشير كثير من الخبراء بأصابع الاتهام إلى الزيادة السكانية بأنها تستهلك موارد الأرض.

لم يدرك عالم الأحياء الأمريكي والباحث في جامعة ستانفورد، بول رالف إيرليش، حين نشر عام 1968 كتاباً رخيص الثمن بغلاف ورقي بعنوان "القنبلة السكانية"، أن كتابه الذي جرى تجاهله في البداية، سيباع منه ملايين النسخ ويصبح واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في القرن العشرين، وأكثرها إثارة للجدل.

يحذر الكتاب الذي تصدرت غلافه عبارة "وأنتم تقرؤون هذه الكلمات أربعة أشخاص سيموتون جوعاً، أغلبهم من الأطفال"، من أن مئات الملايين من الناس ستقتلهم المجاعة في السبعينيات والثمانينيات (من القرن الماضي)، ولا شيء يمكن أن يوقف الزيادة في معدل الوفيات العالمي بالرغم من كل برامج الطوارئ التي يجري تنفيذها.

أثّر الكتاب، الذي صدر في فترة زمنية تعتبر بداية لتشكل الوعي البيئي العالمي قبل سنوات قليلة من انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية البشرية في ستوكهولم عام 1972، في السياسات العامة في عدد من الدول، وزاد الوعي حول القضايا السكانية، بل إنه دفع بعض الدول إلى اتخاذ خطوات سريعة باتجاه تنظيم الأسرة وتحديد النسل ووضع قوانين تنظم ذلك.

لكن تنبؤات إيرليش المتشائمة لم تتحقق رغم ازدياد عدد سكان العالم بأكثر من ثلاثة أضعاف مقارنة بما كان عليه في منتصف القرن العشرين، إذ بلغ 8 مليارات نسمة في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بعد ما كان يُقدر بنحو 2.5 مليار شخص في عام 1950، حسب تقرير لمنظمة الأمم المتحدة.

ومن المتوقع أن يواصل الرقم بالارتفاع ليبلغ ذروته بما يقرب من 10.4 مليار في منتصف العقد الثامن من هذا القرن، حسب الأمم المتحدة التي تُرجِع قصة نجاح البشرية إلى التحسن الكبير في الصحة العامة، وتقليل أخطار الوفاة خصوصاً بين الأمهات والأطفال، وازدياد متوسط ​​العمر المتوقع.

استهلاك سريع للموارد

مع انتشار الفقر والجوع في أكثر من بقعة من بقاع الأرض، واستمرار تفاقم أزمة المناخ، ونقص المياه، يشير كثير من الخبراء بأصابع الاتهام إلى الزيادة السكانية بأنها تستهلك موارد الأرض، على الرغم من أننا ننتج اليوم أكثر مما يكفي لإطعام سكان العالم بأسره.

وكان كتاب إيرليش حمل بدايةً عنوان "السكان والموارد والبيئة" قبل أن يغيره الناشر إلى عنوانه الحالي لأسباب تسويقية، على الرغم من أن العنوان الأصلي يشير إلى العلاقة المترابطة بين ازدياد عدد السكان، وكفاية موارد الأرض، والمشكلات البيئية التي قد تنتج عن الزيادة المطّردة في عدد السكان واستنزاف موارد الطبيعة بشكل غير مسؤول، وليس إلى الانفجار السكاني فقط.

ويرى كبير مسؤولي شؤون السكان في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة، شيريل سوير، أنه وعلى الرغم من تفوق النمو العالمي في الإنتاج الزراعي على الزيادة السكانية منذ ستينيات القرن الماضي جاء هذا النجاح بأعباء كبيرة.

على رأسها أولاً أنظمة غذاء غير مستدامة تؤدي إلى فقد وهدر هائل للأغذية. وثانياً، التوزيع الحالي للأغذية غير المتكافئ بدرجة كبيرة، كما يتضح من استمرار الجوع وسوء التغذية في مناطق واسعة من العالم.

بدوره، يقول ماتيس واكرناجيل مؤسس شبكة البصمة العالمية، وأحد مؤلفَي كتاب "البصمة البيئية: إدارة ميزانيتنا للقدرة البيولوجية" إن "البشرية تستهلك حالياً موارد الطبيعة 1.75 مرة أسرع مما يمكن أن يجدده كوكب الأرض من موارده، وإن هذا الاستهلاك لا يمكن أن يمر دون عواقب وخيمة".

ويعني هذا تفريط في إنفاق رأس المال الطبيعي، ما يعرض هذه الموارد في المستقبل للخطر ويؤدي إلى نتائج سيئة مثل إزالة الغابات وتراكم ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.

"مهمة ليست مستحيلة"

يرى المهندس عماد سعد خبير الاستدامة والتغير المناخي، ورئيس شبكة بيئة أبوظبي، في حديث إلى TRT عربي، أن التوازن بين موارد الأرض وعدد السكان ليس سهلاً لكنه ليس مستحيلاً، وأن موارد الأرض متجددة ضمن حدود المحافظة على هذا التوازن، وهي تكفي لهذا العدد من السكان وأكثر بكثير.

لكن ما حدث من تعدي الإنسان على هذه النظم البيئية، والجشع باستثمار موارد الأرض بأكثر من حاجته إليها، دون أي حساب لعملية التوازن ضمن النظم البيئية، أدى إلى تراجع قدرة الأرض في تلبية احتياجات الإنسان، وفق سعد.

وقال، "نستهلك الموارد بشكل مفرط، وبوتيرة أكبر من قدرة الأرض على تجديدها، وهذا ما يسمى بـ(البصمة البيئية)، وهي أداة لقياس معدل استخدام الأفراد للموارد الموجودة مقارنة بالمعدل الذي تحتاج إليه الأرض لإعادة توفير هذه الموارد".

وفي هذا الإطار، ركزت مبادئ "مؤتمر ستوكهولم الأول للبيئة" على ضرورة حماية الموارد الطبيعية للأرض لصالح الأجيال الحالية والمقبلة من خلال التخطيط أو الإدارة الدقيقة، مع الحفاظ على قدرة الأرض إنتاج موارد حيوية متجددة، واستخدام الموارد غير المتجددة للأرض بطريقة تحميها من خطر استنفاذها في المستقبل.

لكن وبعد نصف قرن على "مؤتمر ستوكهولم"، وهو أول مؤتمر أممي معني بالبيئة يضع المبادئ الأساسية لإدارة الموارد المستدامة، وجدت لجنة الموارد الدولية (IRP)، التي أطلقها برنامج الأمم المتحدة للبيئة في تقرير بعنوان "توقعات الموارد العالمية"، أن الاستهلاك العالمي السنوي للموارد نما أكثر من ثلاثة أضعاف خلال الفترة من 1970 إلى 2017، بمتوسط نمو سنوي قدره 2.6%.

كما ارتفع المتوسط ​​العالمي لنصيب الفرد من الطلب على المواد من 7.4 طن في عام 1970 إلى 12.2 طن في عام 2017، مع آثار سلبية كبيرة على البيئة، ولا سيّما زيادة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

يتفق الخبراء والمؤسسات المعنية بحماية الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي، على أن المشكلة الرئيسية ليست في الزيادة السكانية، إذ تكفي موارد الأرض وتزيد، لكن في الاستهلاك غير المستدام وأنماط حياة السكان خصوصاً في الدول الأكثر ثراءً.

ويشكل "ضمان أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة" هدفاً من أهداف التنمية المستدامة الـ17 التي وضعتها الأمم المتحدة لتغيير العالم إلى الأفضل، والتي تتمحور حول مجال البيئة والاقتصاد والمجتمع وحقوق الإنسان.

يؤكد على ذلك خبير الاستدامة والتغير المناخي عماد سعد في حديثه إلى TRT عربي إذ يرى أن البشرية تستهلك بشكل مكشوف من مستقبل الكوكب البيئي، وأن الزيادة السكانية ليست عائقاً أمام التنمية البشرية، شرط التزام الدول والشركات الخاصة منهجيات وقواعد "الاقتصاد الدائري"، و"الاستهلاك المستدام" التي تضمن استدامة الموارد بما يلبي الزيادة المطّردة في عدد السكان.

ويلخص سعد مفهوم "الاستهلاك المستدام" بأن "نشتري ما نحتاج إليه ونستهلك ما اشتريناه".

يجادل الخبير الاقتصادي في جامعة ماريلاند، جوليان سيمون، الذي رفض أطروحة إيرليش، في كتابه "المورد النهائي" (The Ultimate Resource) الصادر عام 1981، بأن البشر كائنات ذكية، قادرة على ابتكار طرق للخروج من حالة نقص الموارد والتكيف معها.

وذلك من خلال زيادة الكفاءة، أو زيادة العرض، أو تطوير البدائل. ويعتقد سيمون وفق ما أورد في كتابه أن "الحيلة البشرية والابتكار في المشاريع قادرين على الاستجابة للنقص الوشيك والمشكلات الحالية، وتجعلنا أفضل حالاً مما كنا عليه قبل ظهور المشكلة".

لكن القدرة الاستيعابية للزيادة السكانية ليست ثابتة وتختلف باختلاف نمط الحياة، ويختل هذا التوازن بشكل كبير في البلدان المتقدمة حيث تعتمد أنماط حياة الناس في الدول الأكثر ثراءً اعتماداً كبيراً على الموارد المستخرجة من البلدان الفقيرة.

ومثال على ذلك، يعيش أكثر من 80٪ من سكان العالم حالياً في بلدان متقدمة لديها أنماط استهلاك غير متوازنة تستخدم موارد أكثر مما يمكن أن تجدده الطبيعة، إذ يستهلك اليابانيون 7.1 مرة أكثر من مواردهم المتاحة.

وعن ذلك يقول الخبير البيئي عماد سعد إنه "لو قُدِّرَ لكل سكان الأرض أن يعيشوا مثل متوسط معيشة الفرد الأمريكي أو الفرد في دول مجلس التعاون الخليجي لكنا بحاجة الى 4.5 كرة أرضية جديدة".

TRT عربي