تابعنا
أشار التقرير الصادر بعنوان "وباء الوحدة والعزلة"، إلى أنّ المشاركة الاجتماعية الحقيقية تتناقص في المجتمع، إذ تُظهر استطلاعات الرأي أنّ النسبة المئوية للأمريكيين الذين يشعرون أنّ باستطاعتهم الثقة بعضهم ببعض انخفضت من 45% إلى 30% بين عامي 1972 و2016.

أعلن الطبيب الأمريكي فيفيك مورثي، رئيس مكتب الجرّاح العام (OSG) المسؤول عن إدارة هيئة الصحة العامة بالولايات المتحدة الأمريكية (USPHS)، في تقرير مؤخراً، التداعيات السلبية للوحدة، واضعاً أُطراً لأولويات الهيئة في الفترة الحالية حول كيفية تعزيز الترابط الاجتماعي، إشارةً منه إلى أنّ تداعيات الوحدة آخذة في الازدياد، وأنّها غدت مصدر قلق على الصحة العامة بشكل لا يمكن تجاهله.

وأشار التقرير الصادر عن المكتب بعنوان "وباء الوحدة والعزلة"، إلى أنّ المشاركة الاجتماعية الحقيقية تتناقص في المجتمع، إذ تُظهر استطلاعات الرأي أنّ النسبة المئوية للأمريكيين الذين يشعرون أنّ باستطاعتهم الثقة بعضهم ببعض انخفضت من 45% إلى 30% بين عامي 1972 و2016.

كما ازداد معدّل متوسط الوقت الذي يقضيه الفرد وحده من 285 دقيقة في عام 2003 إلى 333 دقيقة في اليوم في عام 2020، وكانت الأرقام أكثر حدةً بالنسبة للذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24، إذ انخفض الوقت الذي يقضونه مع الأصدقاء بنسبة 70% على مدى العقدين الماضيين.

شبح الوحدة

ورغم أنّ هذه الأرقام خاصة بالولايات المتحدة، فإنّ شبح الوحدة آخذ في الانتشار في كثيرٍ من الدول والمجتمعات، إذ تشير أرقام منظمة الصحة العالمية إلى أنّ واحداً من بين 3 من كبار السن يشعر بالوحدة.

وفي هذا الصدد يقول استشاري الطب النفسي في المستشفى التعليمي لجامعة "هامبورغ" الألمانية ورئيس المعالجين في مؤسسة "عرب ثيرابي"، الدكتور أدهم المغربي، إنّ الحالات التي نشرف على علاجها والتي تميل إلى العزلة والوحدة في ازدياد.

ويضيف المغربي لـTRT عربي، أنه "رغم وجود تواصل مستمر مع دوائرهم الاجتماعية بفضل ما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ هذا التواصل غير كامل".

ويُرجِع ذلك إلى أنّ التواصل الصحي من المهم أن يشمل استخدام جميع الحواس، كرؤية تعابير الوجه، وسماع نبرة الصوت، التي إن وُجدت في اتصال مرئي فإنّه سيبقى مفتقراً لنقل حاسة الشم أو الشعور بالهواء المحيط، أو الارتباط بالمكان، إذ تكوّن هذه العناصر مجتمعةً حالة تواصل حقيقية من شأنها تحفيز إفراز الهرمونات المسؤولة عن تعديل المزاج في الجسم.

وتقود هذه الحقائق والأرقام إلى السؤال عن ماهية الوحدة، وبالرجوع إلى منظمة الصحة العالمية نجد أنفسنا أمام مصطلحين متقاربين؛ هما الوحدة والعزلة الاجتماعية، حيث تعبّر الوحدة عن الشعور بالألم لعدم تلبية العلاقات الاجتماعية متطلبات الفرد، في حين أنّ العزلة تعني وجود عددٍ قليل من العلاقات الاجتماعية.

وتفسيراً لهذين المصطلحين، يعرّف المغربي الوحدة بأنّها "الانعزال الشعوري أو العاطفي عن المحيط"؛ إذ من الممكن أن يكون لدى الشخص كثير من العلاقات الاجتماعية إلّا أنّها لا تحميه من تسلل الشعور بالوحدة.

في حين أنّ الميل إلى الانعزال قد يكون سمة شخصية، ولكي نطلق على شخص أنّه وحيد بشكل مَرضيّ، لا بدّ أن يكون الميل إلى العزلة لديه ليس من سماته الشخصية المعتادة، خصوصاً إنْ ترافق هذا مع تأثيرات على الأداء الوظيفي، أو مراودة أفكار انتحارية، وفق قول المغربي.

مخاطر مشابهة لآثار التدخين!

إلى جانب الآثار السلبية للوحدة على الصحة النفسية، فإنّ لها آثاراً جسيمة على الصحة الجسدية، إذ يشير الباحثون في كلية الطب بجامعة "هارفارد" إلى ارتباط الوحدة أو العزلة الاجتماعية بزيادة خطر الإصابة بنوبة قلبية بنسبة 29%، وزيادة خطر الإصابة بالسكتة الدماغية بنسبة 32%، وذلك بصورة مشابهة لخطر التدخين أو السمنة. وبشكل أكثر تحديداً أشار بعض الباحثين إلى أنّ الآثار المترتبة على الشعور بالوحدة تُعادل تلك المترتبة على تدخين 15 سيجارة في اليوم.

كما ترتبط العزلة الاجتماعية بارتفاع خطر الوفاة المبكرة، ويرتفع هذا الخطر لدى المرضى الذين يعانون من قصور القلب، فنسبة الوفاة المبكرة لديهم بمعدل 4 أضعاف، وتزداد نسبة إدخالهم المستشفى أو زيارة قسم الطوارئ بـ68% و57% على التوالي.

من ناحية أخرى، ترفع الوحدة خطر الإصابة بالسكري بنسبة تصل إلى الضعف، إذ تخلق حالة مزمنة من الضيق والتي قد تنشط استجابة الإجهاد الفسيولوجي للجسم.

ويُعتقَد أنّ هذه الاستجابة تلعب دوراً مركزياً في مقاومة الأنسولين الناجمة عن ارتفاع مستويات الكورتيزول، هذا عدا عن أنّ الوحدة عادةً ما تقترن بعادات غذائية غير صحية ترتكز على ارتفاع استهلاك المشروبات والأطعمة الغنية بالسكريات.

وقد لوحظ أيضاً ارتفاع استجابات فرط المناعة غير المنظمة بين الأفراد الذين يعانون من الوحدة، إذ يمكن لهذا النوع من الحالات زيادة الاستجابة المناعية حتى للمحفزات الخفيفة، مثل التعرض للبكتيريا أو الفيروسات، بالإضافة لرفع نسبة خطر الإصابة بالأمراض المزمنة مثل التهاب المفاصل الروماتويدي، وضغط الدم، والسرطان.

يشار إلى أن الوحدة يمكن أن تُسبّب أيضاً الإصابة بالخرف بنسبة قد تصل إلى 40%، واحتمالية رفع خطر الإصابة بمرض ألزهايمر بنسبة تصل إلى الضِّعف، وفق دراسة بحثية.

الفردانية والوحدة.. هل من رابط؟

وتشارك رزان أبو عساكر -خريجة كلية الصحافة والإعلام من جامعة الأناضول التركية، والتي تعيش بمفردها في إسطنبول بعيداً عن أهلها في فلسطين- تجربتها الشخصية مع الفردانية وارتباطها بالوحدة، وتقول: "بالطبع ساعدتني الفردانية أن أكون مع ذاتي بشكل كامل، وأرى طريقي في هذه الحياة بصورة أوضح مع تمركز القرار بيدي، ولكن عندما أقارن مشاعر الوحدة التي أشعر بها الآن فهي أعلى من تلك التي كنت أشعر بها وأنا في غزة".

وتضيف لـTRT عربي: "بيد أنّ مشاعر الوحدة التي كانت لديَّ في غزة مرتبطة بعدم قدرتي على الاندماج مع ما حولي، وهي تختلف عن طبيعة مشاعر الوحدة لديّ في إسطنبول، والتي شكلت مواقع التواصل الاجتماعي فيها العامل الأساس".

وتوضّح رزان طبيعة تلك المشاعر قائلةً: "وجدت نفسي أمام شعور داخلي يدفعني لبناء صورة عن نفسي تؤهلني لبناء علاقات مع الآخرين، بهدف بناء مجتمعي الخاص، واكتشفت في النهاية أنّها ما زادتني إلا وحدةً؛ لأنّها لم تكُن حقيقيةً كفاية ولم تعدّ كونها علاقات عبر العالم الافتراضي".

من ناحية أخرى، تروي إسراء يحيى تجربتها؛ إذ تعيش بمفردها في عمّان وتُدرّس في إحدى جامعاتها، وتقول إنّ "الفردانية ساعدتني على التحرّر من بعض المسؤوليات المجتمعية بشكل عزّز قدرتي على معرفة نفسي، وفي الوقت نفسه فهم العلاقات المجتمعية بشكل أكبر، لأتيّقن في النهاية أنّ الإنسان بحاجة إلى أن ينتمي لجماعة دون أن يمحو ذاته".

وتضيف لـTRT عربي: "ولا أنكر أنّني في مراحل معينة لم أَسْلم من الوحدة، ولكن لولا تجربتي مع الفردانية التي لن أتخلى عنها، لم أكُن لأصل إلى هذا التوازن".

خسارة اجتماعية

ويرى الدكتور المغربي أنّ الأشخاص الفردانيين أو "المستقلين تماماً"، كما وصفهم، أكثر عُرضةً للشعور بالوحدة، ولكنّه في الوقت نفسه يؤكدّ أنّ الفردانية لا تقود إلى الوحدة في حال كانت ضمن حدود غير متطرفة.

ويشير استشاري الطب النفسي إلى أنّ تحديد العلاقات وتنظيم الدوائر الاجتماعية المحيطة بالفرد هما الفيصل في تجنب الانغماس في فردانية مطلَقة تقود إلى فقدان نظام الدعم الاجتماعي، كما هو حاصل في المجتمعات القائمة على مفهوم الفردانية، التي تشير الدراسات فيها إلى أنّ الأشخاص الأكثر فردانية معرضون لخسارة دائرة الدعم الاجتماعي، والشعور بالاغتراب بشكل أكبر، ما يجعلهم فريسة أسهل للأمراض النفسية والجسدية.

يُذكر أنّه أُخذت عينة تزيد على 5500 طالب جامعي من 12 دولة مختلفة في دراسة بحثت عن الرابط بين الفردانية ومعدّل الانتحار، وشملت العينات طلاباً من دول تغلب عليها القيَم الجمعية مثل الأردن، وفلسطين، والسعودية، وتركيا، وتونس، مقابل دول أخرى تغلب عليها القيَم الفردية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.

وجدت الدراسة أنّ معدلات الانتحار كانت أقلّ لدى الأشخاص الذين لديهم قيَم فردانية أعلى في المجتمعات الجمعية، مقابل نسب انتحارٍ أعلى لدى أصحاب نفس القيَم في المجتمعات الفردانية.

وفُسّرت النتائج على أنّ الفرد في المجتمعات الجمعية بحاجة للاستقلال والتخلص من سطوة المجتمع في سبيل تحقيق مساعيه واكتشاف ذاته، ما يجعل الفردانية تشكل عاملاً إيجابياً في هذه المجتمعات، وفي المقابل فإنّ الفرد في المجتمع الفرداني بحاجة لنظام دعم اجتماعي أشد متانة ليحقق توازناً أكبر في حياته.

وخلصت الدراسة إلى أنّ القيَم الفردية أو الجمعية المفرطة قد تدمّر مثل هذه الفوائد المحتملة لمعتنقي هذَين التوجهين، وأنّ المستويات المعتدلة من الفردانية هي فقط ما تشكل عامل حماية من الإقدام على الانتحار.

TRT عربي