تابعنا
نزح أكثر من 7.6 مليون شخص سوداني منذ اندلاع الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، في 15 أبريل/نيسان 2023

يواجه السكان المدنيون في السودان من الفئات العمرية كافة أزمات نفسية نتيجة الحرب المستمرة في البلاد منذ ما يقارب 10 أشهر.

الأعمال العسكرية المستمرة وما نتج عنها من فظائع وفقدان الأمان ومأساة النزوح أدت إلى ظهور أعراض مشاكل نفسية لبعض الأشخاص، منها فقدان الشهية، وصعوبات في النوم، إضافة إلى اضطراب المزاج، ما جعل من نجوا بحياتهم تلاحقهم هذه الأزمات، وكأن الحرب تلتصق بضحاياها حتى بعد النجاة من الرصاص والقذائف.

معاناة نفسية مركبة

"يشتد تبادل النيران بالقرب من سكننا، ويصعب علينا الخروج للحصول على اللوازم الأساسية للمعيشة، نحاول التأقلم مع هذا الوضع لكننا نشعر باكتئاب حاد وتوتر بسبب أصوات المدافع"، بهذه الكلمات يصف خالد ميرغني، معاناته بسبب إصابته بمرض السكري الذي تضاعف مرضه من أزمة الحرب لعدم قدرته على الخروج والحصول على جرعات الدواء، حتى ولو أصيب بنوبة سكر.

وعانى الرجل أيضاً من "غيبوبة السكر" ثلاث مرات خلال الفترات السابقة، وأصيب بجرح سكري ما اضطره إلى الانتظام في غيار الجرح، الأمر الذي شكل ضغطاً إضافياً عليه، كما يقول لـTRT عربي.

انتقل خالد مع عائلته من منطقة "الموردة" في أم درمان، التي تعتبر منطقة اشتباكات نشطة إلى منطقة "الثورة الحارة السادسة" في أم درمان.

ويشير إلى أنهم يعانون من القصف العشوائي الذي يخيفهم، ويضاعف من معاناتهم البحث المستمر عن الماء، مضيفاً: "أكملنا عشرة أيام منذ غياب الماء في منطقتنا؛ ما أجبرنا على استخدام (بئر سايفون) جديدة لاستخراج الماء المالح منها لاستخدامها للأغراض الأخرى غير الشراب".

بدورها، تصف الشابة آلاء عبد الحليم معاناتها النفسية التي لاقتها للمرة الأولى عندما تركت هي وعائلتها منزلهم بسبب الحرب واتجهوا إلى منزل شقيقتها في منطقة جديدة داخل الخرطوم بعد خمسة أشهر عاشوها في منطقة بحري التي كانت تشهد اشتباكات مكثفة طوال تلك الفترة.

تقول آلاء لـTRT عربي: "ننتظر مصيراً مجهولاً وسط القصف الكثيف، نشعر دوماً بعدم الأمان، يصعب على الإنسان أن يدعم أحداً في هذه الظروف، فنحن نعيش في منزلٍ واحد و لكن كل فرد منا (على أعصابه)".

وتستذكر الشابة أصعب اللحظات التي مرّت عليهم كانت حينما غادر جيرانهم الحي وأصبحت معظم المنازل فارغة، "كانت بعض القوات تأتي وتطلق الرصاص بصورة عشوائية؛ الأمر الذي سبب لهم ولأطفالهم الرعب"، وفق قولها، واصفةً أنهم كانوا يعيشون ضغطاً نفسياً يومياً وسط غياب الدعم النفسي.

ونزح أكثر من 7.6 مليون شخص سوداني منذ اندلاع الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، في 15 أبريل/نيسان 2023، قبل أن تمتد الحرب إلى ولاية الجزيرة، إذ ارتفع عدد النازحين في السودان بنحو 500 ألف شخص خلال شهر، حسب إحصائيات الأمم المتحدة.

وكان معظم الذين نزحوا من هذه الحرب في حاجة ماسة إلى الدعم النفسي، فضلاً عن الذين مازالوا قابعين تحت خط النار في مناطق الصراع في العاصمة وولاية الجزيرة.

جهود رسمية للدعم النفسي

تسعى وزارة الصحة في السودان إلى تقديم الدعم النفسي للنازحين من الحرب الدائرة في السودان، ووضعت الملف ضمن لجنة الطوارئ الإنسانية بالبلاد، وتحاول تقديم الرعاية النفسية عبر إقامة الورش والفاعليات في عدد من الولايات عبر مراكز الإيواء، ومناطق تجمعات النازحين، بيد أن هذه الجهود لا توازي حجم المتأثرين بالحرب.

وتشير إحصائيات المنظمات الأممية إلى نزوح أكثر من 7 ملايين ونصف من الحرب، جُلهم ممن يحتاجون إلى الدعم النفسي، في ظل وصول النظام الصحي إلى نقطة الانهيار، وفق ما أشارت إليه منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وخروج معظم المستشفيات عن الخدمة حسب بيان نقابة الأطباء، ما يجعل تقديم خدمات الدعم النفسي لا يغطي معظم النازحين، هذا فضلاً عن الذين ما زالوا في مناطق النزاعات، إذ يصعب الوصول إليهم.

وتقول مديرة إدارة الصحة النفسية في وزارة الصحة السودانية هيام إبراهيم، إنه منذ اندلاع الحرب في الخرطوم، والذي تسبب في نزوح عدد كبير من المواطنين إلى الولايات وتردي الوضع العام، أصبحت الصحة النفسية أولوية قصوى وحاجة ملّحة إلى الدعم النفسي والاجتماعي، إذ قامت إدارة الصحة النفسية والمعاقرة الاتحادية بالاتصال بكل الولايات لمعرفة الوضع الراهن والعمل معهم في تقديم خدمات الدعم النفسي والاجتماعي منذ اندلاع الحرب وبداية النزوح.

وتضيف هيام لـTRT عربي، أن هناك عدداً من الولايات فيها معسكرات نزوح ودور إيواء وهي نهر النيل والجزيرة والشمالية وشمال دارفور وجنوب دارفور والبحر الأحمر وكسلا، حيث قدّموا عدداً من الخدمات، منها الإسعافات النفسية الأولية، بالإضافة إلى خدمات المبادئ التوجيهية للجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات للمعسكرات وكيفية تلقي الخدمات من مأكل ومشرب مراعاةً للكرامة الإنسانية، كما أنهم أقاموا المساحات الصديقة للأطفال، وعلاج الصدمات النفسية للكبار والصغار، وعلاج حالات الهلع والخوف والقلق وكل اضطرابات الطفولة.

وتشير هيام إلى أن إدارة الصحة النفسية تابعت الحالات التي لديها تاريخ مرضي نفسي سابق وقدمت لها العلاج، كما زودت الاختصاصيين النفسيين بكل المعينات من رسائل وكتب عن طريق الوسائل الإلكترونية، ومن ثم توزيعهم على دور الإيواء والمعسكرات.

اضطراب ما بعد الصدمة

بدوره، يقول رئيس قسم علم النفس بجامعة الخرطوم الدكتور أحمد عبد المنعم، إن هناك اضطرابات نفسية تحدث أثناء فترة الحروب ونشوب النزاعات المسلحة منها الذعر والخوف والقلق، موضحاً أن العلامات الرئيسية التي تظهر على الشخص قد لا تصنف علمياً كونها اضطرابات نفسية، لكنها قد تُنذر باضطرابات نفسية منها الشعور بالإحباط واليأس وعدم القِيمة.

ويضيف عبد المنعم لـTRT عربي، أن أبرز الاضطرابات النفسية السائدة في هذه الحالات "اضطراب ما بعد الصدمة" (Post traumatic Disorder)، ويحدث بشكل أساسي بعد تعرض الفرد لصدمة حياتية كبيرة، فقد على إثرها أحبته، أو سمع فيها أصواتاً عالية مخيفة، أو فقدان ممتلكاته ووظيفته.

وتأتي عادة بعد الحروب وما يصاحبها من أحداث، وتظهر على الفرد علامات الذعر والشعور بالإحباط والخوف، والخوف من المجهول وظهور علامات "المزاج الاكتئابي" منها عدم الرغبة في ممارسة الأنشطة اليومية، وفق الدكتور عبد المنعم.

ويبيّن رئيس علم النفس في جامعة الخرطوم، أن الإصابة بالإعاقات المختلفة التي تنتج عن الحرب، تُصنف من ضمن الآثار المتعدية للحرب، إذ يحتاج الفرد بعدها إلى رعاية نفسية خاصة.

ويشير عبد المنعم إلى أن الاضطرابات المصاحبة للنزاعات المسلحة والحروب قد تكون عارضة تزول بزوال الأحداث المفاجئة والصادمة، وقد تكون مستمرة في حال غياب الرعاية اللازمة والمتابعة و تتحول فيما بعد إلى إضطرابات نفسية تتعقد عملية علاجها.

ويردف: تحتاج هذه الاضطرابات إلى المتابعة المستمرة وتلقي العلاج النفسي، تمتد فيها جلسات العلاج النفسي ما بين ثلاثة إلى ستة أشهر باستخدام تقنيات علاجية كالتنفيس الانفعالي وتعديل الأفكار وتعلم مهارات وسلوكيات جديدة.

ويلفت إلى أن هناك آثاراً جانبية لاضطراب ما بعد الصدمة تؤثر على الجانب النفسي والجسدي، الأمر الذي يتطلب عملية علاجية متكاملة، مؤكداً أن العلاج يفضِّل أن يكون في أثناء فترة الحرب ومستمراً، لا أن يجري الانتظار حتى تتوقف النزاعات، مع محاولة إبعاد المتأثرين عن مناطق الحروب باعتبار أن جزءاً من العلاج يتمثل في الجانب البيئي.

ويرى عبد المنعم أن الأشخاص الذين ما زالوا داخل مناطق النزاعات هم أكثر عرضة لمضاعفات الاضطرابات النفسية كون المؤثر ما زال مستمراً، مما يضعف فاعلية العلاج.

وعانت خدمات الصحة النفسية في الأعوام التي سبقت اندلاع الحرب من نقص حادٍ بالمرافق التي تقدم الخدمات في السودان، وعقب اندلاع المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع تعرض مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية في مدينة أم درمان، والمعروف شعبياً لدى السودانيين بـ"مستشفى المجانين"، إلى الإخلاء بالقوة من جميع المرضى الذين كانوا يباشرون علاجهم داخله، كما أن الصرح العملاق الذي يقصده المرضى من جميع أنحاء البلاد ويدرب الأطباء وطلاب الطب والتمريض وعلم النفس تعرض لدمار كبير جراء القصف ليخرج من الخدمة تماماً.

الإسعافات النفسية الأولية للمتأثرين

ويشير مدير منظمة الصحة النفسية المحلية في السودان، العاقب موسى زكريا إلى تزايد أعداد الذين يحتاجون للدعم النفسي عقب امتداد الحرب لولاية الجزيرة، إذ يصعب حصر المحتاجين للرعاية النفسية بدقة، لكن هناك عشرات الآلاف من الذين ينتظرون الدعم النفسي، مشيراً إلى أن المجتمعات المضيفة هي الأخرى تأثرت نفسياً، ما جعلها تضاف إلى قوائم المنتظرين للدعم النفسي.

ويضيف العاقب لـTRT عربي، أن هناك ثلاثة أشكال من خدمات الدعم النفسي تقدمها منظمة الصحة النفسية، منها خدمات الدعم النفسي الاجتماعي، التي تقدم للنازحين من الآباء والأمهات الذين يعولون أسرهم ليكونوا قادرين على أداء واجباتهم تجاه أبنائهم وليعودوا للمساهمة في الحياة العامة من جديد، وهناك جوانب الدعم الاجتماعي عبر توفير جهات تقدم للمتأثرين الخدمات التي لا تقدمها منظمة الصحة النفسية، كالطعام والملبس والإيواء وبناء علاقات اجتماعية صحية مع المجتمع المحيط.

ويتمثل الشكل الثاني في الإسعافات النفسية الأولية، وهي الخطوة الأولى التي تقدم للقادمين من مناطق الصراعات وقائمة على تخفيف القلق والتوتر، ومحاولة تقليل أعراض الصدمة النفسية للحرب، يجري ذلك عبر تدخل مدروس.

أما الشكل الثالث للتدخلات هو المساحات الصديقة للأطفال وهي تضم أنشطة كاللعب والغناء والرسم والتشكيل واستخدام مهارات بناء الذات تقدم من قبل متخصصين في المنظمة، وفق زكريا.

ويبيّن أنهم حدّثوا برامجهم القديمة وجداول العمل الموضوعة منذ فترة لتشمل حتى الموجودين الآن داخل مناطق النزاعات كجزء من خطط العمل التي يجب تنفيذها، لأن المنظمة تتمركز داخل ولاية البحر الأحمر ولم تنتشر بعد إلى بقية المناطق، عازياً تأجيل تنفيذ بعض برامجهم إلى كون العمل في المنظمة يعتمد على المجهودات الفردية لأعضاء المنظمة.

ويشير مدير منظمة الصحة النفسية إلى أنهم يخططون لتقديم خدمات الإسعافات الأولية النفسية عبر خط الهاتف للموجودين داخل مناطق النزاعات، للتخلص من آثار الصدمات النفسية الناتجة عن الوجود داخل مناطق الصراعات.

وتضم المنظمة التي تتمركز في ولاية البحر الأحمر مجموعة من الاختصاصيين النفسيين، وتهتم بتقديم خدمات الصحة النفسية، كما تعمل في مجال بناء السلام الاجتماعي وفض النزاعات.

ومع توافد النازحين إلى ولاية البحر الأحمر قدّمت منظمة الصحة النفسية خدمات الإرشادات النفسية، لبعض الحالات التي كانت من آثار نفسية متقدمة، بالإضافة إلى تقديم الإسعافات النفسية الأولى للنازحين في دور الإيواء بالتنسيق مع كوادر المنظمة العاملة في مناطق وجود النازحين.

ويؤكد زكريا أن منظمتهم درست -عبر برامج الدعم النفسي والاجتماعي- العلاقة بين النازحين في دور الإيواء والمجتمعات المضيفة لهم، ومحاولة رفع وعي المجتمعات المستضيفة لتقليل حدة التوتر التي تحدث بين النازحين والمجتمعات المحيطة بهم.

TRT عربي