تابعنا
من العقوبات الاقتصادية إلى التحالفات الاستراتيجية، تستفيد الولايات المتحدة من قوة ونفوذ الشركات المتعددة الجنسيات لتعزيز أهداف سياستها الخارجية والحفاظ على مكانتها العالمية.

في ظل المنافسة المحتدمة التي تتسم بها العلاقات الدولية، أصبح الدور الذي تلعبه الشركات الكبرى بارزاً على نحو متزايد، ويتجلى بشكل واضح من ضمن الاستراتيجيات التي تستخدمها واشنطن في صراعاتها الجيوسياسية، فمن العقوبات الاقتصادية إلى التحالفات الاستراتيجية تسعى الولايات المتحدة إلى توظيف قوة ونفوذ الشركات لتعزيز أهداف سياستها الخارجية على المسرح العالمي.

ومع العمليات التي تمتد عبر القارات والإيرادات التي تتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لعديد من الدول، تمتلك هذه الكيانات نطاقاً وموارد لا مثيل لها. ومن خلال الاستفادة من هيمنتها على السوق استخدمت واشنطن تكتيكات مختلفة لتأكيد نفوذها وإجبار الخصوم على الامتثال، لا سيما بعد التغييرات التي عصفت بالمشهد الجيوسياسي في السنوات الأخيرة.

وكان من أبرز مظاهر هذه الاستراتيجية فرض العقوبات الاقتصادية، فمن خلال استهداف صناعات رئيسية أو شركات محددة، يمكن للولايات المتحدة أن تمارس ضغوطاً هائلة على الأنظمة أو الكيانات التي تعتبرها تهديداً لمصالحها.

وسواء كان الأمر يتعلق بتجميد الأصول أو تقييد الوصول إلى التكنولوجيات الحيوية أو حظر المعاملات مع الكيانات المحددة، فإن العقوبات تخدم باعتبارها أداة قوية للحرب الاقتصادية.

الجغرافيا السياسية ودور الشركات

حسب مجلة فورين أفيرز الأمريكية فإنه حتى وقت قريب للغاية كان عدد قليل من المسؤولين التنفيذيين يهتمون بالجغرافيا السياسية. وفي عالم ما بعد الحرب الباردة ومع تقدم العولمة أصبحت فكرة أن المصالح الوطنية قد تتعارض مع الأسواق المفتوحة والتجارة المتوسعة تبدو غريبة على المسؤولين التنفيذيين الأمريكيين.

لكن التغييرات التي عصفت بالمشهد الجيوسياسي في السنوات الأخيرة تركت انطباعاً مغايراً لدى كبار المسؤولين في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ففي استطلاع حديث لـ500 من المستثمرين المؤسسين، صنفت الجغرافيا السياسية على أنها الخطر الأكبر على الاقتصاد العالمي والأسواق في عام 2024.

ويعود جزء من هذا القلق إلى الإيقاع المتسارع للصراعات العالمية، مع الحروب المستمرة في أوكرانيا والشرق الأوسط والمخاوف بشأن أزمة مرتقبة في مضيق تايوان، وفقاً لما نقلته المجلة الأمريكية.

ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن التحول الجذري يحدث الآن، وهو الذي يجبر الشركات على التحول إلى جهات فاعلة على المسرح الجيوسياسي. وبينما تعتمد الحكومات على القيود الاقتصادية والسياسات الصناعية لتحقيق أهداف جيوسياسية، أصبحت الشركات على نحو متزايد أهدافاً وأدوات للسياسة الخارجية.

ساحة صراع جديدة

وتمثل مركزية المنافسة الاقتصادية في مشكلات السياسة الخارجية اليوم انفصالاً نوعياً عن الماضي، ففي أثناء الحرب الباردة على سبيل المثال كان التفاعل الاقتصادي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي نادراً، لكن في حقبة ما بعد الحرب الباردة ركزت السياسة الخارجية للولايات المتحدة على فتح الأسواق وتقليل الحواجز الاقتصادية الدولية بدلاً من إقامتها.

وعلى الرغم من أن القوة العسكرية لا تزال تشكل أهمية كبيرة، فإن المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية قد أصبحت ساحة المعركة الرئيسية في السياسة العالمية.

وفي ظل ما يُسمى بإجماع واشنطن الذي هيمن على صناعة السياسات لعقود من الزمن، كانت مسألة المكان الذي ستُبنى فيه شركة تصنيع أشباه الموصلات مصنعها التالي أو ما إذا كانت شركات السيارات الألمانية ستقرر خنق استثماراتها في الصين تبدو غير مهمة نسبياً في نظر صناع السياسات، وأصبح الآن مثل هذه الأسئلة في قلب كل مناقشات السياسة الخارجية الرئيسية تقريباً.

كما أدى التكامل الاقتصادي الأكبر إلى خلق شبكة معقدة من الروابط بين المنافسين الجيوسياسيين، التي يسعى صناع السياسات الآن إلى الاستفادة منها لتحقيق أهداف استراتيجية، وينطبق هذا بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالشبكات المالية والتكنولوجية، إذ تتمتع واشنطن بمكانة متميزة.

وأشار الباحثان هنري فاريل وأبراهام نيومان في كتابهما الأخير "الإمبراطورية تحت الأرض" إلى أن الولايات المتحدة تقع في مركز نظام سباكة معلوماتي ضخم، بُني بشكل عشوائي تقريباً على مدى عقود من الزمن، ويسمح للاقتصاد العالمي بالعمل، فانتشار الدولار في كل مكان في المعاملات العالمية، وسيطرة الولايات المتحدة على البنية التحتية الحيوية للإنترنت، وهيمنة الشركات الأمريكية عندما يتعلق الأمر بحقوق الملكية الفكرية وراء التكنولوجيا الحيوية المهمة، كل هذا سمح لواشنطن بإجبار المنافسين الجيوسياسيين أو استهدافهم، غالباً من خلال العقوبات.

كيف وجدت الشركات نفسها طرفاً في هذا الصراع؟

وبعيداً عن التدابير العقابية، تعمل واشنطن أيضاً على تعزيز نفوذ الشركات من خلال الشراكات والتحالفات الاستراتيجية. ومن خلال إقامة علاقات وثيقة مع اللاعبين الرئيسيين في الصناعة تكتسب الولايات المتحدة إمكانية الوصول إلى الموارد الحيوية والتقنيات والاستخبارات، ما يعزز قدرتها التنافسية في الصراعات الجيوسياسية، وفقاً لما كتبته إميلي ستيوارت تحت عنوان "تسليح التكنولوجيا الأمريكية.. كيف تستخدم واشنطن التكنولوجيا الكبرى لتعزيز الأهداف الجيوسياسية؟".

علاوة على ذلك تعمل الشركات الكبرى في كثير من الأحيان كسفراء غير رسميين للمصالح الأمريكية في الخارج. ومن خلال شبكاتهم العالمية وعملياتهم التجارية الواسعة يمكنهم تشكيل التصورات، والتأثير في صناع القرار، وتسهيل الارتباطات الدبلوماسية، سواء كان من خلال دبلوماسية الشركات أو المبادرات الخيرية أو حملات العلاقات العامة، فإن هذه الكيانات تعرض القوة الناعمة وتعزز الأهداف الأوسع للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.

وفي هذه البيئة الجديدة يعتمد نجاح أو فشل عملية صنع السياسة الخارجية بشكل متزايد على عملية صنع القرار في الشركات التي تدرك جيداً أن مثل هذه القواعد قد تتطلب أيضاً إجراءات متعددة الأطراف، لأن اللاعبين الآخرين في جميع أنحاء العالم سوف يسعون بكل سرور إلى الاستبدال بالخبرة ورأس المال الأمريكي عندما تجعلهما واشنطن غير متاحتين، وفق الإذاعة الوطنية الأمريكية إن بي آر (NPR).

TRT عربي