تابعنا
في فرنسا ندد المزارعون الذين انطلقت أولى شرارات سخطهم من جنوب البلاد بالأعباء المالية والمعايير البيئية التي تعتبر ثقيلة للغاية بالمقارنة مع الدخل السنوي الذي يعرف تراجعاً مهماً في بعض المجالات

في الوقت الذي علّق فيه المزارعون الفرنسيون احتجاجاتهم ولو بشكل مؤقت، لا يزال الوضع مشتعلاً عند بعض الدول الأوروبية، ففي إسبانيا وإيطاليا وبلغاريا تستمر التعبئة لإدانة "المعايير" أو حتى "المنافسة غير العادلة" من المنتجات المستوردة.

منذ أشهُر تزايَد غضب المزارعين في عديد من البلدان الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا والمجر وهولندا وفرنسا وبلغاريا وبولندا وإسبانيا، وإذا كانت أسباب حركات الغضب هذه متعددة فإنها تعكس قلقاً عميقاً داخل عالم الزراعة في أوروبا.

حراك مستمر

بدأ كل شيء في هولندا في صيف عام 2022 عندما قدمت الحكومة خطة لتقليل عدد حيوانات المزارع بشكل كبير، وكان الدافع قبل كل شيء بيئياً، وهو مكافحة انبعاثات الغازات الدفيئة.

وكان من المخطط خفض أعداد الماشية مثل أبقار الألبان بنسبة 30%، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى اختفاء ما بين 10 إلى 15 ألف مزرعة.

وفي فرنسا ندد المزارعون الذين انطلقت أولى شرارات سخطهم من جنوب البلاد بالأعباء المالية والمعايير البيئية التي تعتبر ثقيلة للغاية بالمقارنة مع الدخل السنوي الذي يعرف تراجعاً مهماً في بعض المجالات، وأدت الزيادة التدريجية في الضرائب على وقود الديزل غير المخصص للطرق إلى تفاقم حالة الضجر.

كما تعاني المهنة أيضاً من التأجيلات المتتالية لمشروع قانون الزراعة الذي وعد به إيمانويل ماكرون قبل أكثر من عام.

وفي مطلع يناير/كانون الثاني الماضي أغلقت قوافل الجرارات الألمانية أيضاً طرق البلاد بعد إعلان حكومة شولتس عن خطط الإلغاء التدريجي لدعم الوقود، الذي يصل إلى 3000 يورو سنوياً لشركة متوسطة.

ولم يؤدِّ الاستياء الطويل الأمد إزاء التنفيذ غير العادل للسياسات البيئية إلا إلى صبّ الزيت على النار، ليخرج المزارعون إلى الشوارع منذ ديسمبر/كانون الأول 2023، وينضم إليهم نشطاء البيئة في برلين.

وعلى الجانب الآخر من جبال الألب، في إيطاليا، القوة الزراعية الثالثة في أوروبا، تظاهر المزارعون في العاصمة روما بعد التعبئة في المناطق خلال الأيام الماضية.

وكما هي الحال في ألمانيا وفرنسا، يطالب المتظاهرون في إيطاليا أيضاً بتخفيف الضرائب على وقود الديزل غير المخصص للطرق.

وفي بولندا والمجر اكتسبت الحركة الغاضبة للمزارعين زخماً في البلدين الجارين، إذ تصدّى المزارعون للتدفق غير المنضبط للحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى من أوكرانيا.

وخلال هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات يشكو المتظاهرون من قلّة أرباح الزراعة والثروة الحيوانية وعدم وجود إجراءات حكومية لحماية سُبل عيشهم، كما ألقى عديد من المزارعين المجريين باللوم على الاتحاد الأوروبي بخصوص الصعوبات التي يواجهونها.

أسباب مشتركة

ويبدو أنه رغم اختلاف أسباب السخط الذي تردد صداه في أوروبا فإن المزارعين في الغالبية يتحدثون علناً ضد زيادة الضرائب والصفقة الخضراء التي جرى تقديمها في عام 2019، وهو ميثاق أخضر أوروبي يحدد أهدافاً للحدّ من المبيدات الحشرية وزيادة الأراضي البور، وفق خبير الاقتصاد الزراعي وعضو الأكاديمية الفرنسية للزراعة، جان ماري سيروني.

ويؤكد سيروني لـTRT عربي أن كل ذلك في سياق يتميز بتقلبات مناخية صعبة وارتفاع في تكاليف الإنتاج ومنافسة خارجية شرسة، إضافةً إلى الدخل غير المستقر، أو استيراد بمعايير ازدواجية أو حتى السياسة الزراعية الأوروبية التي تُعتبر معقدة للغاية.

واردات أوكرانيا في الواجهة

وفي شرق القارة تحديداً إذا ما ذُكرت المعايير الأوروبية أيضاً فإن واردات المنتجات الزراعية من أوكرانيا تُدان بشكل خاص، ومنذ الإعفاء من الرسوم الجمركية الممنوحة عام 2022 لدعم البلاد في حالة الحرب مع روسيا، تُنافِس هذه المنتجات المنتجين المحليين وتدفع الأسعار إلى الانخفاض.

وكان الدافع المباشر للاحتجاج هو اقتراح من المفوضية الأوروبية بتمديد واردات المنتجات الزراعية الأوكرانية المُعفاة من الرسوم الجمركية لمدة عام آخر.

وللتنديد بهذا الوضع، فرض المزارعون البولنديون -مثلاً- حصاراً على معبر حدودي مهم مع أوكرانيا قبل أن يحصلوا على ضمانات الدعم من حكومتهم وتعليقه.

وفي بيان مشترك دعت ست منظمات زراعية أوروبية إلى تقييد واردات المنتجات الأوكرانية إلى الاتحاد الأوروبي من خلال وضع سقف لها.

ويرى الخبير الاقتصادي سيلفان بيرسينجر أنه "من الصعب تحديد العواقب المترتبة على زيادة الواردات الزراعية من أوكرانيا بالنسبة إلى المزارعين والمستهلكين الأوروبيين".

ويشير بيرسينجر في حديثه مع TRT عربي إلى أن زيادة صادرات أوكرانيا قد تؤدّي إلى عواقب مختلفة على المزارعين، في الحالة الأولى -التي تثير الغضب الحالي- فإن الواردات الأوكرانية تلحق الضرر ببعض المنتجين الأوروبيين الذين قد يتكبدون خسائر فادحة.

ويضيف أن الاحتمال الآخر هو أن الواردات الأوكرانية تحل محل الواردات من البلدان الأخرى، وبالتالي تأثيرها منعدم في المزارعين المحليين، مؤكداً أن "هذه المنافسة الإضافية تخفض الأسعار إلى أدنى مستوياتها بالنسبة إلى المزارعين الأوروبيين، وخصوصاً الفرنسيين".

ويوضح بيرسينجر أنه "منذ بداية الحرب زادت الصادرات الزراعية الأوكرانية إلى الاتحاد الأوروبي بشكل حاد، ومن حيث الحجم فقد ارتفعت بنسبة 176% بين الأشهُر الأحد عشر الأولى من 2021، والفترة نفسها من 2023، خصوصاً السكَّر والحلويات التي زادت بمقدار عشرة أضعاف أو صادرات الحبوب التي تضاعفت أكثر من ثلاثة أضعاف".

المفوضية الأوروبية تستجيب

جيرمين كرانتز، وهو مزارع ومربي أبقار في بلدية رانجين الفرنسية، تظاهر مع عشرات المزارعين أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، يقول إنه تظاهر "للقاء البرلمانيين الأوروبيين"، ليطلب منهم "التوقف عن استيراد المنتجات التي لا تلبي المعايير المفروضة عليهم".

ويضيف كرانتز لـTRT عربي أن "الدجاج الأوكراني على سبيل المثال يحتوي على مضادات حيوية محظورة في فرنسا، ومع ذلك يُستورَد ويباع في الأسواق"، مندداً بـ"تشويه المنافسة"، إذ إن "تكلفة اليد العاملة والطاقة في فرنسا لا تضاهي أبداً تلك الخاصة بأوكرانيا".

وإضافةً إلى السخط الزراعي من السياسات الوطنية والمنافسة الخارجية، يؤكد جان ماري سيروني أن المزارعين في أوروبا يشتكون من ثقل القوانين الأوروبية التي لا تناسب خصوصية وظروف كل بلد، ومن "ازدواجية المعايير".

ويلفت الخبير الاقتصادي الزراعي إلى أن هناك "تناقضاً صارخاً، إذ تفرض المفوضية الأوروبية على المزارعين المحليين عدم استعمال نوع معين من المبيدات، وتسمح في المقابل باستيراد منتجات بعيدة عن هذه المعايير لأنها غارقة في هذه المبيدات".

وأمام كل هذه الصعوبات يُضطر بعض المزارع إلى إغلاق الأبواب، إذ تؤكد فيرونيك مارشيسو، الأمينة العامة لاتحاد بايزان الفرنسي، ومربية أبقار، أنه "في عام 1990 كان في فرنسا مليون فلاح، واليوم لا يتعدى عددهم 380 ألف فلاح".

وتوضح مارشيسو في حديثها مع TRT عربي أن أسباب تراجع أعداد الفلاحين يعود بشكل أساسي إلى "السياسات المجحفة على المستوى الوطني والأوروبي".

حلول مقدمة

ولمواجهة غضب العالم الزراعي دفنت المفوضية الأوروبية مشروعاً تشريعياً يهدف إلى الحدّ من استخدام المبيدات الحشرية، كما اقترحت الحدّ من الواردات الأوكرانية، في حين وعدت بـ"تبسيط" السياسة الزراعية المشتركة (CAP).

وقدّمت حكومات الدول المعنية حزمة تنازلات بهدف إرضاء المزارعين، من بينها إعفاءات على الميراث الزراعي، وإنشاء بنود وقائية للحدّ من الواردات في فرنسا.

وتعهد رئيس الحكومة الإسبانية بتحسين قانون 2013 بشأن السلسلة الغذائية، لمنع المزارعين الإسبان من بيع منتجاتهم بخسارة، فيما تبنّت الحكومة الرومانية عديداً من الطلبات، بما في ذلك دعم الديزل والمساعدة الحكومية وإمكانية تأجيل سداد القروض في بعض الحالات.

ويبدو أن سخط المزارعين يثير بعض المخاوف السياسية، خصوصاً أن البرلمان الأوروبي سيُجدَّد في يونيو/حزيران المقبل.

وفي هولندا على سبيل المثال أدت التعبئة إلى ظهور "حركة المزارعين والمواطنين"، التي فازت بشكل مفاجئ في انتخابات المقاطعات في مارس/آذار 2023.

ويتوقع مراقبون أنه في حال لم يهدأ غضب الفلاحين في القارة الأوروبية فمن الممكن أن تحاول أحزاب أخرى ركوب هذه الثورة المناهضة لبروكسل.

TRT عربي