تابعنا
في أواخر عام 2017، قُدّم اقتراح إلى إدارة فيسبوك بتشكيل هيئة أو لجنة مهمتها وضع قوانين وسياسات تحديد المحتوى، قبله مؤسس الشركة مارك زوكربيرغ. ومنذ ذلك الوقت تحوّل "مجلس الإشراف" إلى أداة رقابة إسرائيلية ضد المحتوى الفلسطيني.

منذ بدء الحرب على غزّة أضحت مواقع التواصل الاجتماعي أكثر تشدّداً في سياساتها حيال كل المحتوى المساند للصفّ الفلسطيني، وتطول قائمة الكلمات المحظورة على المنصّات الكبرى على غرار التطبيقات التابعة لشركة ميتا.

على سبيل المثال لا الحصر، إذا احتوت تدوينة إحدى هذ الكلمات: "أقصى، طوفان، فلسطين، اليهود، الكيان المحتل، الصهيونية، جهاد، حماس"، فهناك احتمال كبير أن تحذف خوارزميات تلك المنصات تدوينتك أو تخفيها عن شبكة معارفك، وقد يصل الحال إلى تجميد خاصيّة النشر، أو حتى حظر الحساب كلياً.

فما الذي يُحدّد المحتوى المسموح أو المحظورَ على منصّات شركة ميتا أي كلٍّ من فيسبوك وإنستغرام؟

سلطة إسرائيلية على "البيت الأزرق"

تُحدّد سياسة إدارة المحتوى في فيسبوك انطلاقاً من توصيات "مجلس الإشراف" الذي بات يُعرف اليوم بمجلس الرقابة الأكثر تأثيراً.

قبل الشروع في تفسير كيفيّة عمل المجلس والدور الإسرائيلي في تقييد المحتوى الفلسطيني، نعود بالزمن إلى عام 2016، مع بداية تغيير سياسة فيسبوك تجاه المحتوى العربي عموماً والمحتوى الفلسطيني على وجهٍ خاص.

حينها أخبرت حكومة إسرائيل شركات الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بسنّها قانوناً جديداً يفرض عقوبات ماليّة كبيرة على الشركات التي لا تتعامل بسرعة مع طلبات الحكومة الإسرائيلية المتعلّقة بحذف المحتوى الفلسطيني الذي تعدّه "معادياً للسامية" و"مشجعاً على الكراهية".

حينها قال إيريك باربينغ، رئيس الوحدة السيبرانية الإسرائيلية السابق، إن "حكومته طلبت بشكل رسمي من شركة ميتا حذف الكلمات أو الجمل المناهضة لدولته وحتى الصور أو الإعجاب بصور الشهداء الفلسطينيين".

وفي نهاية العام نفسه، بَدا واضحاً أن نتائج ذلك الاتفاق بين إسرائيل وميتا آتت أُكلها، إذ مع اندلاع الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، حذفت وقيّدت ميتا ملايين المنشورات والحسابات المؤيدة للفلسطينيين، وشمَل الحظر كل منشور يحتوي كلمات "الصهيونية" و"الأقصى"، حسبما صرحت مروة فطافطة، مديرة سياسة الحقوق الرقمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة (Access Now).

وبسبب تلك السياسات المنحازة لشركة ميتا ضدّ القضايا الإسلامية والعربية، عَمدَ كثير من المستخدمين إلى حملة لخفض تصنيف فيسبوك في متاجر التطبيقات من خلال وضع نجمة واحدة.

مجلس الإشراف

في أواخر عام 2017، قُدّم اقتراح إلى إدارة فيسبوك بتشكيل هيئة أو لجنة مهمتها وضع قوانين وسياسات تحديد المحتوى.

كان الكاتب الأمريكي وأستاذ القانون في كلية هارفارد للحقوق نوح فيلدمان (Noah Feldman) وراء تقديم الاقتراح لرئيس ميتا، مارك زوكربيرغ، ولا بد من تسليط الضوء عليه لمعرفة مرجعياته وأسباب انحيازه لطرف على حساب الآخر.

وُلد فيلدمان وترعرع في عائلة يهودية أرثوذكسية متطرفة، كما تلقى تعليمهُ الأوّلي في مدرسة تخضع لإشراف الحاخامات وهي مدرسة "موسى بن ميمون" (Maimonides).

تابع دراسته الجامعية في كلية هارفارد وتخرّج فيها عام 1992، كما تلقى منحة رودس للالتحاق بجامعة أكسفورد التي حصل منها على دكتوراه الفلسفة في الفكر الإسلامي عام 1994.

عند احتلال الولايات المتحدة للعراق عام 2003، عمل فيلدمان مستشاراً في بداية تكوين سلطة الائتلاف المؤقتة، حينها كان عمله تحت إمرة جاي غريمر، وكانت مسؤولياته غير متركزة على قضية معينة.

بعد ذلك عمل تحت إمرة بول بريمر، الحاكم المدني للعراق، وكانت مهمّة الفريق الذي عمل فيه هي المشاركة في كتابة دستور البلاد، وهو ما انعكس واضحاً على الفوضى التي عاشها العراق منذ ذلك الحين.

لفيلدمان مؤلفات عدة، أهمها: "ما بعد الجهاد: أمريكا والصراع من أجل ديمقراطية إسلامية"، و"سقوط وقيام الدولة الإسلامية".

بعد أن وافق زوكربيرغ على مقترح فيلدمان، أعلنت الشركة تأسيس تلك الهيئة شبه المستقلة ووضع لها رئيساً وأعضاء من مختلف الجنسيات، لكن صاحبة الحظ الأكبر من التأثير هي إيمي بالمور، المديرة العامة السابقة لوزارة العدل الإسرائيلية.

وقد أدلت بالمور عَقِب تعيينها في ميتا بتصريحات جاء فيها: "إن الديمقراطية اليهودية هي الوحيدة في العالم التي لديها دروس مهمّة لهيئة إدارة المحتوى الجديدة".

وأضافت أن "التقارير التي تفيد بأن المعلومات الخاطئة والعنف وخطاب الكراهية -بما في ذلك معاداة السامية وإنكار الهولوكوست- تزدهر على فيسبوك، والهدف من إنشاء المجلس هو السماح لمجموعة من الخبراء الخارجيّين بالتعليق على القضايا المثيرة للجدل وتقديم توصيات سياسيّة إلى فيسبوك التي ستحكم مستخدميها البالغ عددهم 2.5 مليار مستخدم".

وأشارت بالمور إلى أنه "يوجد في إسرائيل 9 ملايين شخص، ويمكن لمجلس الرقابة التأثير في 2.5 مليار مستخدم، لذا فهو حقاً شرف عظيم. إنها مسؤولية كبيرة".

أمّا عن وظائفها السابقة، فهي صاحبة خبرة طويلة في ملاحقة الإعلام والمنصات المؤيّدة للفلسطينيين، إذ أنشأت عام 2016 وحدة إلكترونية مسؤولة عن مراقبة منشورات وسائل التواصل الاجتماعي الفلسطينية، بناءً على أوامر من الوزيرة اليمينية المتطرفة إيليت شاكيد.

وقالت منظمة "عدالة" الفلسطينية لحقوق الإنسان ومقرّها حيفا، إن "هذه الوحدة التي تشرف عليها بالمور، استهدفت وقمعت عمداً عشرات الآلاف من المنشورات الفلسطينية، وفرضت قيوداً صارمة على حرية التعبير والرأي، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بفلسطين".

ووفقاً لـ"عدالة"، ارتفع عدد عمليات حذف للمحتوى بنسبة 500% في عام 2017، وهو العام الثاني لوحدة الإنترنت التابعة لإيمي بالمور، وفي عام 2018، سجّلت 14285 عملية حذف مع بث رسالة كل 66 ثانية تحض على الكراهية ضد الفلسطينيين.

فضلاً عن ذلك، تولت بالمور رئاسة مجموعة "ناتال"، وهي منظمة غير ربحية سياسيّة متخصصة في مجال الحرب والصدمات المرتبطة بالإرهاب.

تضييق واضح في حرب غزة

في معركة "طوفان الأقصى" الحالية، بات واضحاً تأثير مجلس الإشراف وإيمي بالمور على سياسة شركة "ميتا" تجاه المحتوى المؤيد للقضية الفلسطينية، إذ طبّقت الشركة بشكل مفرط القواعد بحق المحتوى العربي، كما جاء على لسان عضو مجلس الإشراف في شركة ميتا، جولي أوانو.

واتخذت الشركة قوانين وقواعد للتعامل مع الأحداث، ومنها توسعة قائمة الأسماء والكيانات المحظورة، وحذف كل المنشورات التي تذكر حماس، ما عدا تلك التي تأتي في سياق الأخبار.

وفرضت شروطاً على التعليقات على المنشورات وحذفت كل التعليقات التي تحتوي على علم فلسطين.

ومن نتائج هذه السياسات، حذف قرابة الـ800 ألف منشور وحساب وفق ما ذكره موقع "ذي إنترسبت"، كما عُلّق أو حُظر عدد من الحسابات التي لها مئات الآلاف من المتابعين، كموقع "موندوس" الأمريكي الإخباري والتحليلي المتخصص بالشأن الفلسطيني، الذي عُلّقت صفحته لفترة ثم عادت.

في السياق ذاته، أغلقت شركة ميتا على فيسبوك صفحة الموقع الفلسطيني المستقل "شبكة القدس الإخبارية"، المصدر الرئيسي للأخبار للفلسطينيين، التي يتابعها 10 ملايين شخص.

وقالت الشبكة إن صفحاتها الإخبارية باللغتين العربية والإنجليزية قد حُذفت من فيسبوك، رغم أنها كانت ملتزمة معايير ميتا الإعلامية المحدّدة.

فضلاً عن ذلك، أغلقت ميتا على منصة "إنستغرام" حسابات تمتلك أعداداً كبيرة من المتابعين، ومن بين هذه الحسابات "دعونا نتحدث عن فلسطين"، وهو حساب يضم أكثر من 300 ألف متابع يعرض محتوى إعلامياً مؤيداً للفلسطينيين، إلى جانب وسيلة الإعلام الفلسطينية (24M)، وغيرها.

وقالت ميتا إن هذه الحسابات وأخرى أُغلقت لـ"أسباب أمنية" بعد ظهور علامات على تعرضها للاختراق.

ومن وسائل ميتا لحجب ظهور المنشورات المؤيدة لِفلسطين، سياسة "الحجب الخفيّ"، أي جعل المنشور يظهر عند فئة قليلة جداً من المتابعين للصفحة المعنيّة.

وأبلغ بعض المستخدمين عن قيود مفروضة على حساباتهم على منصتي إنستغرام وفيسبوك بعد نشرهم تعليقات حول فلسطين، بما في ذلك عدم القدرة على البث المباشر أو التعليق، وحجب الوسوم (الهاشتاغات) المتعلقة بحماس و"طوفان الأقصى" وإخفاؤها من محركات البحث، وفقاً لموقع "ذي إنترسبت".

وإنْ نجا منشور من خوارزميات ميتا، فَسوف ينتظره جيش من الذباب الإلكتروني الذي أعدّته إسرائيل وتحديداً الوحدة الإلكترونية التي تشرف عليها بالمور، ومعظمهم جنود سابقون ومستوطنون يبلّغون عن المنشورات والحسابات مما يؤدي إلى إغلاقها.

هذا التناقض الذي تتعامل به ميتا مع السياسات الخارجية بات واضحاً للعيان، وبينما تدعم سياستها المحتوى الأوكراني وتُظهر ضحايا الحرب الأوكرانية، تحظر الحسابات التي تُظهر ضحايا القصف الإسرائيلي والمهجّرين قسراً من سكان القطاع عادّةً إياها تمجّد العنف.

وبهذا الصدد قالت ديبورا براون، الباحثة في مجال الحقوق الرقمية في منظمة هيومن رايتس ووتش، إن "شركة ميتا وَمنصاتها لا تقدم ما يكفي لدعم حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، وهي منحازة لطرف على حساب طرف آخر".

TRT عربي