تابعنا
رصد المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع، في آخر تحديث، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل 133 صحفيّاً في مواقع وأزمنة متفاوتة، ولن تكون هذه الإحصائية هي الأخيرة، كون الحرب لم تنتهِ بعد.

منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يمارس جيش الاحتلال سياسة القتل العمد ضدّ المدنيين في كل محافظات القطاع، لكن في سياسة الحروب يحمي القانون الدولي بعض المهن، مثل الأطباء والمسعفين والصحفيين، الذين يعملون في مواجهة النار، بينما في حالة غزة، الصحفيون في دائرة الاستهداف، كونهم فلسطينيين.

وقد رصد المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع، في آخر تحديث، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل 133 صحفيّاً في مواقع وأزمنة متفاوتة، ولن تكون هذه الإحصائية هي الأخيرة، كون الحرب لم تنتهِ بعد.

"نموت في اليوم ألف مرة"

الصحفية خولة الخالدي، تجلس بجانب كاميرتها وتستعد لمداخلة حول التطورات الميدانية في قطاع غزة على الشاشة، وتقول حول تغطيتها التي تعتبرها استثنائية بكل تفاصيلها، إن الحرب هذه ليست مجرد حرب عسكرية، وإنما طالت كل تفاصيل حياتها اليومية، حرب جوع وعطش وانعدام كامل لمقومات الحياة الأساسية.

تستذكر الخالدي تغطياتها في الحروب السابقة على غزة، وتضيف لـTRT عربي: "عندما كنا ننتهي من تغطية الحرب نعود إلى عائلاتنا وأولادنا وبيوتنا، لكن في هذه الحرب بيوتنا دمَّرها الاحتلال، وفقدنا كثيراً من أفراد عائلاتنا، فأنا مشتاقة لشقتي التي شيدتها حديثاً ودفعت ثمنها تعب 14 عاماً من العمل، واستهدفها جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي لم يعد لي منزل، وأتنقل بين منازل الأقارب في كل مرحلة نزوح".

ويمتلك الصحفيون الفلسطينيون قدرة على الاستمرار في التغطية رغم كل التحديات والمعوقات التي تعصف بعملهم الصحفي، نتيجة الاعتداءات المباشرة وغير المباشرة عليهم من جيش الاحتلال الإسرائيلي، فمنهم من قُصف منزله، وآخر استُشهدت عائلته، ومنهم مَن خسر عمله بسبب فقدانه أجهزته ومعداته الأساسية، وآخرون مختفون منذ عملية "طوفان الأقصى".

وتتابع خولة الخالدي: "نموت في اليوم ألف مرة، ليس فقط لأننا صحفيون، فنحن أمهات وآباء ولدينا مسؤولية تقع على عاتقنا تجاه أبنائنا، وهو ما يشكِّل عبئاً كبيراً علينا لأنه يجب أن نوفي بمسؤوليتنا باعتبارنا أرباب أُسَر، ونضطر إلى النزوح كباقي سكان غزة، إذ تنقَّلنا أكثر من مرة من غزة إلى الوسطى وصولاً إلى رفح، التي يدعي جيش الاحتلال الإسرائيلي بأنها منطقة آمنة، وهي ليست كذلك".

تحديات أمام عمل الصحفيين

وتبيِّن خولة أن القانون الدولي لا يُطبَّق على صحفيي غزة، إذ يُقتلون أمام أعين العالم، لكنه لا يتأثر، وتستشهد بالحرب الروسية-الأوكرانية، إذ سُمح للصحفيين بالوجود في أماكن القتال للتغطية، لكن في غزة يضطرون إلى النزوح كباقي المواطنين ولا يُسمح لهم بالتغطية من مواقع القتال رغم أنهم أصحاب الأرض!

وتلفت إلى أنه "بطلقة رصاص واحدة يقضي جندي الاحتلال الإسرائيلي على حياة الصحفي، ويُمسح اسمه، ليس من السجل الصحفي فحسب، وإنما من السجل المدني كذلك، لذلك نُضطر إلى حماية أنفسنا قدر المستطاع، فنتجه إلى الأماكن التي يدّعي الاحتلال أنها آمنة، لكن كثيرًا من الصحفيين استُشهدوا فيها إثر استهدافات مباشرة لهم ولعائلاتهم".

تُضاف إلى ذلك سلسلة من التحديات اللوجستية، إذ فقدت خولة هاتفها الخلوي وجهاز حاسوبها باستهداف منزلها عندما كانت في غزة، وكان من الصعب عليها العثور على بدائل وشرائها بسبب شُح المعدات في الأسواق، وإنْ توفرت فأسعارها ستكون مرتفعة جدّاً، إضافة إلى عدم توافر الكهرباء وشبكات الإنترنت والاتصالات، وهي عوامل مهمة لضمان استمرار التغطية.

ويواجه الصحفيون الفلسطينيون أصعب وأقسى الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية، ومنها الاعتقال والقتل العمد، بهدف منعهم من مواصلة مهنتهم ونقل ما يقع لأبناء مدينتهم، لكن الإصرار على الاستمرار هو سيد الموقف.

اعتقال بلا تهمة

شاحب الوجه، منهك الجسد، وحيداً بعيداً عن عائلته، هكذا يبدو حال الصحفي الفلسطيني ضياء الكحلوت داخل خيمته التي نصبها أمام مستشفى الكويتي في مدينة رفح جنوبي القطاع، الذي أفرجت عنه قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد اعتقال دام 33 يوماً، تعرّض خلالها لأساليب تعذيب مختلفة تمثلت في الضرب والإهانة والشَّبْح، وهي طريقة تقوم على أساس تقييد الأيدي للخلف وتعليق المعتقل في سقف الغرفة، كما تسبب آلاماً شديدة وفِقداناً للوعى.

يعمل الكحلوت مديراً لمكتب إحدى الصحف في مدينة غزة، واعتُقل في السابع من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، خلال الاجتياح البري لبلدة بيت لاهيا شمال القطاع، خلال حملة إسرائيلية استهدفت مجموعة من المدنيين، آنذاك نشر الجيش الإسرائيلي صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي، من بينهم كان ضياء.

ويَعتبر الصحفي ضياء أن يوم اعتقاله "من أسوأ أيام حياته"، فيقول لـTRT عربي إنه "اعتُقل بلا تهمة من منزله مع عدد من الفلسطينيين من أبناء البلدة"، إذ أجبرهم جيش الاحتلال الإسرائيلي على خلع ملابسهم وبقوا لساعات شبه عراة، مكبّلي الأيدي ومعصوبي الأعين في البرد القارس، والتقط الجيش صوراً لهم ومن ثم نشرها في محاولة "لإذلالهم".

ويؤكد الكحلوت أنه تعرض للتعذيب المباشر وغير المباشر وعاش في ظروف غير إنسانية، إذ كان يعاني من قلة الأكل والنوم وغياب كامل عن العالم الخارجي، إضافة إلى سياسة العقاب إذا حاول الحديث مع معتقل آخر، أو إذا تأخَّر في دورة المياه.

وعمد جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى التركيز على الكحلوت في التحقيق، كونه صحفيّاً أولاً، ولعدم استجابته لأوامرهم بالنزوح إلى جنوب قطاع غزة ثانياً، وجرى التحقيق معه بكثافة حول عمله وتقاريره التي أنجزها على مدار الأشهر والسنوات الماضية، وفق قوله.

أما الآن، فضياء الذي بقي وحيداً في الجنوب، وعائلته في الشمال محروماً من رؤيتها، حتى الاتصالات تكون ضئيلة بسبب ضعف شبكات الإرسال في القطاع، ينتظر أن تنتهي الحرب ليجتمع شمله بأطفاله.

ماذا بعد الحرب؟

على مدار الساعة يدور في ذهن الصحفية خولة جُملة من الأسئلة، خصوصاً حول الوضع بعد الحرب وظروف غزة، بعدما دمر جيش الاحتلال الإسرائيلي المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية والجامعات والبيوت، ولا سيما أن مصير الأطفال ومستقبلهم مرتبط بظروف المدينة.

تتساءل خولة: هل سيتوفر بالقريب مستقبل من الناحية الصحية والتعليم؟ هل ستعود الحرب مرة ثانية؟

أسئلة باتت تفكر فيها بشكل جدّي، حتى إنها تفكر في الخروج والسفر من غزة إلى دولة أخرى تضمن مستقبلاً لأطفالها، ولو لفترة زمنية حتى تستعيد غزة نفسها.

ويوافقها الرأي المراسل الصحفي مؤمن الشرافي، الذي فقد 22 فرداً من عائلته، بينهم والدته ووالده، يقول: "بعد الحرب لم يبقَ لي أحد في غزة، الحرب غيَّرت مسار حياتي كلها".

ويروي الشرافي لـTRT عربي أصعب موقف مرَّ به طوال حياته، وفق وصفه، إذ كان على الهواء مباشرة في الرابعة فجراً، وانتابه شعور غريب، حتى إنه بكى دون معرفة السبب، لم يكن يعرف بأن هذا الشعور خلفه مصيبة، إذ تلقى في الساعة الخامسة والنصف فجراً خبراً عاجلاً عن استهداف منزل خالته في جباليا شمالي القطاع، الذي نزحت إليه أسرته، وتأكد عند الساعة السادسة من ابن أخيه من صحة الخبر، الذي نزل عليه كالصاعقة: "عائلتُك استُهدفت وهي تحت الركام"، والأصعب من ذلك أنه لم يلقِ نظرة الوداع عليهم، وبقي منهم 7 شهداء حتى الآن تحت الأنقاض نظراً لصعوبة إزالة الركام.

ويضيف الشرافي، الذي بدأ عمله مراسلاً في غزة خلال الحرب، بعدما كان يعمل في الجهة ذاتها منتجاً للأخبار، أن هذه التغطية استثنائية بكل جوانبها على الصعيد الشخصي والمهني والمعيشي، مختلفة في كل شيء.

ويلفت المراسل المتعلّق بأمه كثيراً، إلى أن أكثر ما آلمه هو فقد والدته، إذ كان قد رفض عرضاً قدمته له الجهة التي يعمل بها قبل الحرب خارج البلاد، لكنه رفض من أجل البقاء بجانب والديه.

لم يكتفِ الاحتلال باستهداف عائلته في مكان نزوحها وإنما قصف بيت العائلة الكائن في حي التفاح شرقي مدينة غزة، المليء بالذكريات، وعندما علم من صديقه بالسويد عن منزل عائلته الذي استُهدف، لم يشعر بحزن، لأنه ببساطة يخشى أن تنتهي الحرب ويرجع إلى المنزل فتعود ذاكرته للحظات العائلية التي كانت تجمعه بوالديه.

ويضيف مؤمن، الذي لم يتبقَ له إلا أسرته الصغيرة، زوجته وأطفاله: "عندما تنتهي الحرب سأزور قبرَي أمي وأبي، بعدها أفكر كيف سأنجو بأطفالي".

TRT عربي
الأكثر تداولاً