تابعنا
العزل الانفرادي؛ عبارة عن زنزانة صغيرة لا تزيد مساحتها على 80 سنتيمتراً بطول 120 سنتيمتراً، يجري حجز المعتقل فيها لأيام أو أسابيع عدّة وحرمانه من الحديث مع أي إنسان أو مقابلة المحامي أو مندوبي الصليب الأحمر الدولي.

يُعد السجن أداة استعمارية فعالة جداً لهندسة سيكولوجية الفلسطينيين، يلجأ إليها الاحتلال الإسرائيلي بشكلٍ مباشر ودائم للسيطرة عليهم والتحكم بهم، وذلك انطلاقاً من ادّعائه امتلاك الشرعية القانونية لاحتجاز الفلسطينيين والتنكيل بهم وتطويعهم والانتقام منهم وفقاً لقانون الحكم العسكري 1948-1967.

إن الأدوات التشريعية التي تستند إليها إسرائيل لاعتقال الفلسطينيين في الضفة الغربية (وفي غزة حتى سنة 2005 غداة فك الارتباط بالقطاع) ومحاكمتهم (أو احتجازهم من دون محاكمة)، تتمثل في أنظمة الدفاع (الطوارئ) لسنة 1945، والأوامر العسكرية التي سنّتها القيادة العسكرية للضفة الغربية منذ 1967 حتى اليوم، ولقطاع غزة حتى سنة 2005.

أمّا أبناء غزة الذين اعتُقلوا منذ سنة 2005، وأكثرهم خلال حرب 2008-2009 وحرب 2014 وصولًا لحرب الإبادة الجارية اليوم في القطاع منذ ستة أشهر متواصلة، فقد أخضعتهم إسرائيل لـ"قانون اعتقال المقاتلين غير الشرعيين" الذي سنّه الكنيست الإسرائيلي في مارس/آذار 2002، من أجل السماح للسلطات العسكرية باعتقال أي شخص تعتقد أنه ربما يضرّ بأمن الدولة إذا بقي طليقاً، وفي الوقت ذاته لتجنب الالتزامات القانونية المترتبة على اعتباره "أسير حرب" وفق القانون الدولي.

موقعية السجن في السياق الاستعماري

منذ سنة 1967، يشكّل الأسرى والمعتقلون من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، الأكثرية الساحقة للأسرى والمعتقلين السياسيين (94%) الذين احتُجز معظمهم بموجب قرارات محاكم عسكرية، أمّا سائر الأسرى فمعظمهم اليوم من الفلسطينيين مواطني "دولة إسرائيل" والمقيمين بها الذين احتُجزوا بموجب قرارات محاكم نظامية.

ويُشار إلى أنه ابتداءً من سنة 2005، لم تعد محاكمة أبناء قطاع غزة تجري في المحاكم العسكرية، وإنما في المحاكم النظامية الواقعة في إسرائيل، بسبب إلغاء نظام الحكم العسكري ومحاكمه في غزة.

وقد يُعتقد أن تجربة السجن تمس أفراداً معينين، لكنها في الواقع تعدّ أداة تطويع تستهدف الكل، فآثارها النفسية الوخيمة تلاحق شرائح المجتمع الفلسطيني كافة، ومنذ عام 1967 حتى اليوم، هناك على الأقل مليون فلسطيني مرّ بتجربة الاعتقال في سجون الاحتلال والتحقيق، أي إن خُمس الشعب الفلسطيني تعرض لـ"تجارب تعذيب" وفقاً للمصطلحات القانونية، وقد صُممت هذه التجارب لإحداث أكبر ضرر نفسي بالإنسان الذي يختبرها.

ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023، اعتمدت الحكومة الإسرائيلية على فعل الاعتقال بشكل مفصليّ، لخلق حالة ترهيب في صفوف الشعب الفلسطيني. ووفق معطيات المؤسسات الرسمية للأسرى الفلسطينيين، اعتقل الاحتلال أكثر من 7770 فلسطينياً، من بينهم 250 امرأة وأكثر من 500 طفل و63 صحفياً وصحفية، كما أُصدر أكثر من 4400 أمر اعتقال إداري (ولا تتضمن هذه المعطيات معتقلي غزة المحتجزين في المعسكرات في ظل استمرار إخفائهم قسريّاً).

وقد استُشهد 13 أسيراً على الأقل في سجون الاحتلال ومعسكراته، جميعهم تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، ولا يزال التعذيب للأسرى مستمراً حتى اللحظة، إذ يبلغ اليوم إجمالي عددهم داخل السجون أكثر من 9100 أسير وأسيرة.

محاولات نزع ذوات الأسرى عبر العزل

ابتكر أساتذة التعذيب الإسرائيليون كثيراً من الوسائل لقهر الأسرى وتدمير معنوياتهم، عبر استخدام وسائل العنف النفسيّ، حتى يصل الأسير إلى عدم التركيز والضعف؛ بهدف اقتحام الدائرة المحرَّمة التي تحوي أسراره ومشاعره، وأبرز هذه الأساليب "العزل الانفرادي".

العزل الانفرادي؛ عبارة عن زنزانة صغيرة لا تزيد مساحتها على 80 سنتيمتراً بطول 120 سنتيمتراً، يجري حجز المعتقل فيها لأيام أو أسابيع عدّة وحرمانه من الحديث مع أي إنسان أو مقابلة المحامي أو مندوبي الصليب الأحمر الدولي.

ومثل هذا الإجراء غير القانوني يدفع المحامين إلى تقديم طلب التماس إلى محكمة العدل العليا سعياً للحصول على قرار قضائي بالسماح بزيارة المعتقل، وفي أحيان كثيرة ترفض المحكمة الالتماس، ما شجّع أجهزة المخابرات على التمادي في انتهاك حقوق المعتقلين.

ويتسبب العزل في أضرار نفسية كبيرة للأسرى والمعتقلين، مثل التشتت في النوم، والاكتئاب والخوف، ويسهم في تفاقم الحالة النفسية للأسير. وكثير من تلك المشكلات لا تزول بخروج الأسير من العزل، بل من الممكن أن ترافقه عند عودته للسجن الجماعي أو حتى إلى حياته الطبيعية بعد إطلاق سراحه.

وتقدم مصلحة سجون الاحتلال علاجاً نفسياً منقوصاً للأسرى الفلسطينيين، غالباً ما يقتصر على حبوب الدواء، إذ لا يفحص غالبيةَ الأسرى أطباء نفسيون، إضافةً إلى أن العلاج يقدَّم باللغة العبرية بحضور سجان يترجم كلام الطبيب إلى العربية، وهذا يتعارض مع أخلاقيات مهنة الطب.

آثار نفسية وجسدية

يُعد العزل ضرباً من ضروب التعذيب النفسي المحظورة بموجب المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب المبرمة في عام 1984، كما أنه من أساليب المعاملة اللا إنسانية المحظورة بمقتضى المادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إضافةً إلى ذلك، فإن ظروف العزل لا تلائم الحدّ الأدنى من المقاييس الصحية للسجون ومراكز الاعتقال التي توجبها المادتان (91) و(92) من اتفاقية جنيف الرابعة.

كما أن للعزل آثاراً جسدية على الأسرى أيضاً، إذ يعانون ظواهر في الجهاز الهضمي وفي الأوعية الدموية والقلب، وفي الأجهزة الجنسية والبولية، نتيجة الرجفة والفزع من ألم الرأس والكوابيس، ويتسبب العزل أيضاً في اضطراب في دقات القلب والتعرق الزائد وضيق التنفس.

وفي هذا السياق، تقول مسؤولة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية الدكتورة سماح جبر، إن الضغط المصنوع عمداً في السجن والممنهج استراتيجياً، يهدف إلى كسر الفلسطيني نفسياً، ليصل إلى درجة معاناة شديدة تترافق مع حالة حرمان حسّيٍّ شديد، قد تكون مَرضية، مما يؤدي إلى إصابته بالاكتئاب والقلق ونوبات الهلع والهلوسات والانفصام في الشخصية.

وتضيف جبر لـTRT عربي أن هذه الأعراض تحدث بالتحديد مع الأسرى في غرف العزل داخل الزنازين الانفرادية، وهم الأكثر عُرضة للإصابة بالأعراض الذهانية.

وفي محاولة تفسير كيفية تعامل إدارة مصلحة السجون مع الحالات النفسية للأسرى، تضيف: "للأسف يكون واضحاً جداً بالنسبة إلى الإسرائيليين وجود حالات دخلت السجن بسبب تصرف مَرضيّ، ورغم ذلك يعاقَبون من دون الأخذ بعين الاعتبار أن تصرفاتهم بناءً على حالة مرضية، مما يؤدي إلى تفاقم حالتهم داخل السجن".

وتوضح الطبيبة النفسية أن كثيراً من الحالات التي قابلتها وقد دخلوا السجن وهم يتناولون أدوية نفسية، قُطع العلاج عنهم داخل السجن قصداً، مما أدى إلى تفاقم حالتهم، "كذلك يوجد أشخاص يدخلون السجن أصحاء نفسياً، لكن بسبب تجربة التعذيب والاعتقال وضغط السجن وظروفه يمرضون ويتعبون نفسياً داخله".

صدمة عابرة للأجيال

الأسيرة المقدسية المحررة في صفقة التبادل الأخيرة التي حصلت العام الماضي، مرح بكير، التي كانت ممثلة الأسيرات في سجن الدامون على الرغم من صغر سنها، تصف تجربتها في العزل الانفرادي قائلةً: "كانت أول مرة أوضع في العزل الانفرادي عام 2021، واستمر عزلي لمدة 9 أيام متواصلة في سجن الجلمة، ثم أُنهي العزل بعد تفاوض بين قيادة الأسرى وإدارة السجون وأُعدت إلى سجن الدامون".

وتضيف بكير لـTRT عربي أن المرة الثانية كانت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، نُقلت إلى زنزانة سيئة جداً في سجن الجلمة أيضاً، وكانت مراقَبة بـ4 كاميرات إحداها مسلّطة على مكان الاستحمام، وكانت مياه المرحاض تملأ أرضية الزنزانة ولم تتمكن من الصلاة على مدار 20 يوماً، لم يحترم السجانون خصوصيتها، كما وجّهوا إليها شتائم نابية لا يمكنها سماعها أو ترديدها.

وتشير إلى أنه عندما تساءلت عن سبب عزلها، أخبروها بأن جميع ممثلي الأسرى معزولون بسبب الحرب، لأنها مؤثرة في القسم، بالإضافة لأسباب لا يمكنهم الإفصاح عنها، لكنها صدرت من جهات عليا خارج السجون، وفق ادّعائهم.

وتوضح الأسيرة المحرَّرة أن الأسير في العزل يكون مفصولاً كلياً عن العالم الخارجي، ولا يتواصل مع عائلته أو يعرف أخبارهم، مما يؤدي إلى ضغط نفسي شديد جداً وصعب، "كما أن عدم الحديث إلى الآخرين تنتج عنه إشكاليات نفسية تؤدي إلى سماع أصوات غير حقيقية داخل الزنزانة، يختلقها العقل مع مرور وقت طويل من العزل".

الأحداث غير المسبوقة التي تمرّ بها فلسطين المحتلة اليوم، يرافقها مستوى عالٍ جداً من الاضطهاد والقمع والخوف واسترجاع ذكريات الصدمات التاريخية السابقة في المجتمع الفلسطيني، مما يزيد انتشار المرض النفسي لدى الشعب، إذ إن صدمة الفلسطينيين لا يمكن فهمها على أنها صدمة شخصية، بل صدمة تاريخية بسبب سيطرة شعب آخر على شعب في سياق استعماري، وهي صدمة جمعية عابرة للأجيال وتراكمية، وكلما مرَّ عامل الزمن تتعمق آثارها في أذهان الفلسطينيين ووعيهم الجمعي، وتُتوارَث جيلاً بعد جيل.

TRT عربي