اتساع الجريمة بين فلسطينيي 48  (AA)
تابعنا

يتمثل هذا التواطؤ في عدم ملاحقة السلطات الإسرائيلية للجناة، والسماح باستخدام السلاح بين العصابات الإجرامية، وانتشار المخدرات.

فقد زعم معهد الأبحاث في الكنيست الإسرائيلي أن حصيلة ضحايا جرائم القتل بين فلسطينيي 48 في 2021 بلغت 126 ضحية، نصفهم تقلّ سنهم عن 30 عاماً، منهم 16 امرأة، وهي زيادة ملحوظة على السنوات الماضية، وفشلت شرطة الاحتلال في فك لغز 80% من هذه الجرائم، فيما فكّت رموز 70% من جرائم الوسط اليهودي.

بلغة الأرقام، فإن 73% من جرائم القتل بين فلسطينيي 48 تمت بسلاح ناري، مع وجود 300 ألف قطعة سلاح معهم، مصدر ثلاثة أرباعها مخازن جيش الاحتلال، حصل الفلسطينيون عليها مقابل ثمن باهظ، إما من جنود الاحتلال وإما من اللصوص، ورغم أن فلسطينيي 48 يشكلون 19% فقط من سكان دولة الاحتلال، فإن 70% من الجرائم فيها تقع في صفوفهم.

مع أنه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، سقط 1700 من فلسطينيي 48، وسط فوضى السلاح، وتقاعس سلطات الاحتلال، وتواطؤ شرطته وأجهزته الأمنية، مع عصابات الجريمة المنظمة، مع وجود 500 ألف قطعة سلاح في البلدات الفلسطينية بلا تراخيص.

إن الهدف بعيد المدى الذي تعمل في ضوئه المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة من تسهيل ارتكاب هذه الجرائم، هو إبعاد فلسطينيي 48 عن دائرة الاهتمام بفلسطين، القضية والأرض والوطن.

تشكّل هذه الأرقام الصادمة مناسبة حقيقية لتَعرُّف واقع الجريمة بين فلسطينيي 48، والبحث في أسبابها ودوافعها، وأين يكمن التواطؤ الإسرائيلي في تسهيل حصول هذه الجرائم، ولماذا وإلى أي حدّ يسهم ذلك في إذابة الهُويَّة الفلسطينية العربية لهم أمام باقي الهويات القائمة في دولة الاحتلال.

يُعتبر فلسطينيو48 مجتمعاً عربياً تسود فيه مظاهر القبيلة والعشيرة، وما تشمله من عادات وتقاليد تتمثل في الثأر والانتقام، مما يجعل الأرض مهيأة لتنفيذ جرائم القتل على هذه الخلفية، رغم عدم وجود إحصائيات دقيقة تكشف عن نسبة هذا العامل بصورة أساسية من بين العوامل الأخرى التي تقع جرائم القتل بسببها.

بجانب ذلك يظهر عامل آخَر يتعلق بانتشار المخدرات وعمل عصابات الجريمة المنظمة التي تبدو معنية بنشر حالة من مظاهر الفوضى بين فلسطينيي 48، رغم أن مدنها تنعم بهدوء داخلي كبير، وحالة من التصالح بين مختلف مكوناتها العائلية والسياسية، الأمر الذي قد يعوق مخططات الاحتلال في الإيقاع بينهم، انطلاقاً من قاعدة الاستعمار القديمة-الجديدة "فرِّقْ تسُدْ"، ولَإن كانت أيادي الاحتلال تعبث بصورة ضمنية عبر توجيه تلك العصابات لضرب النسيج الاجتماعي الفلسطيني الداخلي، فسيكون، من وجهة نظرها، أفضل من التدخُّل السافر، وأقلّ كلفة عليها.

ليس سرّاً أن وجود حالة من الانسجام الفلسطيني الداخلي من شأنه أن يُفشِل التوجهات الإسرائيلية المعلنة وغير السرية، القاضية بإيجاد حالة من التشظّي والتفسخ تمهيداً لتمرير مشاريعها الخاصة بفلسطينيي 48، وهم القابضون على الجمر، والصامدون في وجه مخططات الأَسْرَلة والتهويد والصَّهْيَنة والعَبْرَنة، إذ تعتقد المؤسسة الرسمية الإسرائيلية الحاكمة، بشقيها السياسي والأمني، أن محافظة فلسطينيي 48 على تماسك داخلي وترابط ذاتي كفيل بإفشال تلك المخططات الاحتلالية الساعية للتخلص منهم، رويداً رويداً، تمهيداً لإعلانها دولة يهودية، "نقية" من أي قومية أخرى غير اليهودية.

فضلاً عن ذلك، فقد شكّلَت الصحوة الوطنية لدى فلسطينيي 48 خلال السنوات الأخيرة، سواء انخراطهم المبكّر في انتفاضة الأقصى من خلال هبَّة أكتوبر/تشرين الأول 2000، وهبَّة القدس في مايو/أيار 2021، وبينهما انتفاضة القدس 2015، جرس إنذار لدى سلطات الاحتلال التي ظنّت للحظة واحدة أنها نجحت في طمس هويتهم، وشغلتهم في البحث عن امتيازات معيشية وحياتية بمعزل عن القضية الوطنية الأم، الأمر الذي دفع تلك السلطات إلى التفتيش عن وسائل وأساليب غير مسبوقة تهدف إلى شَغلهم عن قضيتهم الوطنية هذه، من خلال شَغلهم بأنفسهم، سواء في الثارات العائلية، أو انتشار عصابات المخدرات، وهي مشاغل كفيلة، في نظر سلطات الاحتلال، بأن تجعلها تتصدر أولوية فلسطينيي 48، على حساب المسائل الوطنية السياسية.

على صعيد الأسلحة المستخدمة، يبدو من الصعب استيعاب المزاعم بأن المجرمين المتهمين بتنفيذ عديد من جرائم القتل استطاعوا الوصول إلى الأسلحة النارية المستخدمة في جرائمهم، بمعزل عن أعيُن الأمن الإسرائيلي المنتشرة في كل زقاق وحارة وشارع من المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، والحديث يدور عن أم الفحم والمثلث والجليل والرمل واللد ويافا والنقب وغيرها، التي تنتشر فيها كاميرات المخابرات الإسرائيلية على مدار الساعة، مما يجعل الأخذ بادّعاءات الاحتلال عن عدم معرفته بمصادر أسلحة المجرمين أمراً أقرب إلى الخيال والسذاجة، فضلاً عن كونه تماشياً مع رواية الاحتلال.

لعل الدليل الأكبر على ذلك يتمثل في الحملة الأمنية الواسعة التي شنّتها أجهزة أمن الاحتلال المختلفة: الجيش والشرطة وحرس الحدود والشاباك، عقب هبَّة مايو/أيار الأخيرة بزعم إلقاء القبض على المحرضين الذين قادوا تظاهرات فلسطينيي 48 ضد المستوطنين والجيش تضامناً مع غزة والقدس، وخلالها جمعت هذه الأجهزة الآلاف من قطع الأسلحة من البيوت والمخابئ والمستودعات والبيارات والآبار، كأنها امتلكت دليلاً يوصلها إلى أماكن تلك الأسلحة بكل دقَّة، لكنها لم تقُم بذلك إلا خشية منها أن يتم استخدام هذه الأسلحة في غير الوجهة المسخرة من أجلها، وهي صدور الفلسطينيين، وحينها يتم التساهل وغضّ الطرف عن تخزين الأسلحة، وتكديسها بين أيدي فلسطينيي 48.

في ذات السياق، فإن لغة الأرقام الصادمة تفيد بأن شرطة الاحتلال تخفق في حل النسبة الكبرى من ألغاز جرائم القتل التي يشهدها فلسطيني و48، فيما تنجح بحل النسبة الكبرى من تلك الجرائم التي يشهدها اليهود، أي إننا أمام تناسب عكسي، مع العلم أن حجم الاختراق الشرطي والأمني الإسرائيلي للواقع الميداني لفلسطينيي 48 لا يخفى على أحد، الأمر الذي يمكّنها، إن أرادت، من فك شفرة أي جريمة قتل خلال أيام قليلة، فضلاً عن ساعات، وليس إهمالها، وإبقاءها معلقة، سنوات طويلة، وأحياناً عقوداً متواصلة، بزعم عدم توفر الأدلة، مما يجعل الأرض مهيأة لأخذ القانون باليد، والانتقام الشخصي والعائلي ممن يُفترض أنه القاتل، وهكذا يدخل الجميع في دوامة من القتل والقتل المتبادَل حتى إشعار آخر.

الحديث يدور عن جهاز شرطي وأمني متطور، بل لعله الأكثر تطوراً في المنطقة بأسرها، يعمل في بقعة جغرافية لا تزيد مساحتها على عدة آلاف معدودة من الكيلومترات المربعة، مما يجعل أي مزاعم عن الفشل في معرفة تفاصيل جرائم القتل، أو العجز عن حلّ ألغازها، وعدم تقديم المتورطين فيها، جزءاً أساسياً من الجريمة ذاتها، إن لم تكن تورُّطاً محورياً في تنفيذها، فلا العقل ولا المنطق يقبل هذه المزاعم، التي رفضتها حتى المنظمات الحقوقية الإسرائيلية، وعدد من أعضاء الكنيست، ممن اعتبروها استخفافاً بالعقل واستهتاراً به.

يُشير كل ما تَقدَّم إلى أن الهدف بعيد المدى الذي تعمل في ضوئه المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة من تسهيل ارتكاب هذه الجرائم، هو إبعاد فلسطينيي 48 عن دائرة الاهتمام بفلسطين، القضية والأرض والوطن، ورفض القوانين والقرارات التي اتخذتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة باعتبارهم مواطنين من الدرجة العاشرة، وتصويرهم على أنهم مجتمع متخلّف يسود فيه منطق السلاح والقتل، وللأسف الشديد تظهر الأيدي المنفذة لهذه المخططات الإسرائيلية فلسطينية عربية، من مرضى النفوس وضعاف القلوب الذين ارتضوا أن يكونوا بيادق بيد الاحتلال، ينقلها أنَّى شاء خدمةً لأهدافه الاستعمارية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً