تابعنا
أوقعت عملية طوفان الأقصى الصدمة والرعب في القيادة الإسرائيلية وجيشها، وكشفت ضعفها وعجزها وعدم قدرتها على اتخاذ قرار مبني على معرفة معلوماتية لما يجرى على أرض الواقع.

عرَض بنيامين نتنياهو خارطة لما أسماه الشرق الأوسط الجديد يوم الجمعة 22 سبتمبر/أيلول 2023، خلال كلمته ألقاها في الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وضمت مناطق خضراء اللّون لدول مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن.

اللافت للنظر أن الخريطة لم تشمل أي ذكر لوجود دولة فلسطين، إذ طغى اللون الأزرق، الذي يحمل كلمة إسرائيل، على خريطة الضفة الغربية المحتلة كاملةً، بما في ذلك قطاع غزة.

لكن ما لم يعلمه رئيس وزراء إسرائيل أن أسابيع قليلة كانت متبقية على عودة فلسطين إلى ساحات العالم وفي ميادين المعارك.

طوفان الأقصى لماذا؟

لم تأتِ عملية طوفان الأقصى من فراغ، إذ كان الائتلاف الثلاثي القيادي نتنياهو وبن غفير وسموتريش قد أعلن عمّا وصفه بـ"خطة الحسم" في إطار عقيدة "جابوتنسكي" التي تدعو إلى بناء جدار عسكري "حديدي".

ورافق ذلك تسليح المستوطنين وتشجيعهم على الاعتداء على الفلسطينيين وعلى المسجد الأقصى وتدنيسه، وممارسة الشعائر التلمودية في حرمه ومحاولة إدخال القرابين.

وتواصل تنفيذ مشروع التهجير، إذ رُحِّل سكان 16 مجمعاً سكنياً فلسطينياً من مناطق متعددة في الضفة الغربية من مناطق سكنهم، وفي قطاع غزة أطبق الحصار والتضييق على أهله وخنقهم.

وفوق ذلك، توفرت معلومات لدى المقاومة الفلسطينية بأن العدو الإسرائيلي يعدّ خطة للذهاب إلى ما هو أبعد من هذه الإجراءات بحرب استباقية في فلسطين يُهجّر من خلالها الشعب الفلسطيني إلى مصر والأردن.

أمام كل ذلك، كان لا بد من التحرّك ومنع هذه المخطّطات بالقوة العسكرية، مع الأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى المختل لصالح الاحتلال.

ولهذا الغرض، أُعِدَّ من طرف المقاومة لعملية عسكرية هجومية مباغتة تستخدم كل نقاط القوة الفلسطينية مقابل نقاط ضعف العدو، ودُرِّب المقاتلون على المهارات القتالية الميدانية العالية، وجُمعت المعلومات الأمنية والاستخبارية عن قدرات الاحتلال وسُبل مواجهته، وخاضت المقاومة حرب الأدمغة والعقول مع الجيش الإسرائيلي ومؤسساته الأمنية والاستخبارية والعسكرية.

كل ذلك مع هدف سياسي يتمثل في إلحاق هزيمة بالجيش الإسرائيلي، من خلال السيطرة على الثكنات العسكرية المنتشرة في غلاف غزة.

تداعيات طوفان الأقصى على إسرائيل

أوقعت عملية طوفان الأقصى الصدمة والرعب في القيادة الإسرائيلية وجيشها، وكشفت ضعفها وعجزها وعدم قدرتها على اتخاذ قرار مبني على معرفة معلوماتية لما يجرى على أرض الواقع.

ووقفت عاجزة لساعات طويلة، بل ارتكبت حماقة عندما أعطت أوامرها للجيش وسلاح الجو بتنفيذ بروتوكول "هنيبعل" -أي قتل اليهود مع آسريهم- في حق الموجودين في حفل موسيقي، مما أدى إلى قتل 364 شخصاً.

وفي اليوم التالي، أعلن رئيس وزراء إسرائيل إعلان الحرب على غزة، واستدعاء 350 ألفاً من جنود الاحتياط، وبدء التحضير لحرب بريّة استغرق اتخاذ قرارها أسبوعين، تحسباً لوجود خلايا مقاومة داخل مستوطنات الغلاف من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة لطلب واشنطن بالبحث عن بدائل للحرب البرية؛ لعدم ثقة الإدارة الأمريكية بقدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق إنجازات ميدانية.

زوراً وبهتاناً أطلقت إسرائيل على حربها على غزة اسم "العملية العسكرية الموسعة" وأسماها الحليف الأمريكي "العملية البريّة المتدحرجة"، لكنّ وَصْفَها بـ"العسكريّة" مخالف للصواب فهي ليست بين جيشين، وإنما امتداد لمجازرَ ارتُكبت ضد الشعب الفلسطيني منذ عام 1948.

وألقت إسرائيل أطناناً من المتفجرات والقنابل المحرمة دولياً، منها "الفوسفور الأبيض" و"القنابل الارتجاجية"، ودمّرت البنايات والأبراج السكنية فوق رؤوس سكانها من المدنيين، واستخدمت أسلوب الأرض المحروقة.

وبعد مرور أسابيع على بدء حربها، تصرّ إسرائيل على أن وصول جيشها إلى المستشفيات وحصارها، بخاصة مستشفى الشفاء، "إنجاز عسكري".

وقد ادّعت أنه يمثل غرفة قيادة عمليات للمقاومة الفلسطينية، لكنّها لم تقدم دليلاً واحداً على ذلك، ما اعتبره كثيرون إخفاقاً عسكرياً وسقوطاً أخلاقياً.

وهو ما شكّك في مصداقيتها ووضَعها في موقف محرج حتى أمام حلفائها، لا سيّما أن المقاومة بثتْ يومياً مقاطع فيديو لعمليات فدائية يُنفّذها المقاومون ضدّ المواقع العسكرية الإسرائيلية، تظهر اشتباكهم مع الجنود الإسرائيليين من "مسافة صفر" ووقوع عددٍ كبير من الخسائر البشرية والعسكرية في صفوف الجيش الإسرائيلي، بخاصة من الدبابات من نوع ميركافا وناقلات الجند من طراز "النمر" التي تعتبرها تل أبيب فخر صناعتها العسكرية.

ما خيارات المقاومة الفلسطينية؟

منذ قرّرت المقاومة خوض معركة تُحدث الفارق الكبير في مستقبل الصراع مع الاحتلال، خطّطت لحرب طويلة الأمد وأخذت بعين الاعتبار ردود الفعل الإسرائيلية وقدراتها التدميرية وإمكانيات تحمّل الخسائر على الأصعدة كافة.

الدليل على ذلك أن المقاومة الفلسطينية ظلت صامدة وقاومت بكل ضراوة، وأوقعت الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي، ومنعته من تحقيق أهدافه بما فيها السيطرة على الأرض.

كما أنّها وفق تصريحات قياداتها -وهم وحدهم العارفون بإمكانياتها الحقّة- مصمّمة رغم كل ما لحق بالمدنيين والبنية التحتية من خسائر، على الاستمرار في الصمود والتصدي لمخططات الاحتلال الهادفة إلى تهجير أهل غزة والقضاء على المقاومة.

ولدى المقاومة الفلسطينية خيارات متعددة، أولها خوض حرب عصابات متحركة ومنتشرة بمجموعات صغيرة على كامل أرض قطاع غزة، يصعُب على العدو اكتشافها، وتستطيع إبقاءه في حالة استنفار وعدم استقرار وتوقِع فيه الخسائر الجسيمة.

وقد دمرّت المقاومة، حتى الآن، أكثر من 335 دبابة وآلية جزئياً أو كلياً، حسب الناطق العسكري لكتائب القسام.

ثاني الخيارات أنه يمكن للمقاومة تنفيذ عمليات خلف خطوط جيش الاحتلال، وفي عمق إسرائيل.

وثالثها أنها يمكنها نصب كمائن واستدراج الاحتلال إلى مناطق يُستهدف فيها، ما قد يرفع من خسائر الجيش الإسرائيلي.

ورابع الخيارات يمكن تنفيذ عمليات لأسر جنود وضباط من الجيش الإسرائيلي.

ما السيناريوهات الإسرائيلية المحتملة؟

هناك مسائل عدّة يجب أخذها بعين الاعتبار، منها مسألة أن الجبهة الداخلية وأهالي الأسرى والمحتجزين يضغطون على حكومتهم من أجل إعطاء الأولوية للإفراج عن الأسرى.

فضلاً عن ذلك، أصبحت إسرائيل مشلولةً اقتصادياً واجتماعياً، لا سيّما أنَّ عصب الاقتصاد هم جنود الاحتياط المنخرطون في القتال، كما أن إخلاء أكثر من 300 ألف لمنازلهم يشكل عبئاً على الحكومة والمجتمع وهو ما يأخذه الجيش بالحسبان، وهذا يدفع إلى توقع سيناريوهات عدّة.

نرى أن السيناريو الأول يتمثل في الاكتفاء بما حقّقه الجيش الإسرائيلي من تمدّد على الأرض، والبناء على الهدنة الإنسانية وتطويرها إلى وقف إطلاق نار دائم، والتقاط أي فرصة للانسحاب من قطاع غزة، وهذا يوفر عليه خسائر كبيرة، ويعزّز هذا السيناريو حجم الخسائر التي لحقت بالجيش وعدم قدرته على تحقيق أي إنجاز عسكري.

أما السيناريو الثاني، فهو ارتكاب نتنياهو، وهو معنيّ بإطالة أمد القتال، حماقةَ الزجّ بمزيدٍ من الجنود في الحرب والتمدّد نحو الجنوب، عندها سيدخل في حرب استنزاف هربت منها إسرائيل في غزة عام 2005، وسيتكبّد خسائر كبيرة لن يتحمّلها، ستُجبره في نهاية المطاف على الانسحاب.

أما السيناريو الثالث، وهو الأخطر، يتمثل في إجبار أهل غزة على النزوح إلى الحدود المصرية.

ختاماً، يمكن القول إن تداعيات طوفان الأقصى تشمل أموراً عدّة، إذ أحيت العملية القضية الفلسطينية ووضعتها في الصدارة، كما أظهرت بشاعة وجه الاحتلال وسقوطه الأخلاقي بارتكابه المجازر وحرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، فضلاً عن فضحها التواطؤ الدولي.

كما كشفت الدول التي تدعي الحضارة وحقوق الإنسان عن حقيقتها وبرهنت على إنسانية الشعوب، وعلى أنها أرقى وأقوى وأعدل من حكامها.

وكذلك أشّرت على سقوط الإعلام الموجه استخبارياً. وأخيراً ظهَر رأي عام عالمي وعربي جديد متحرّر من الكذب والتبعية العمياء، وهذا يؤشر على انتصار الفلسطيني في أمِّ المعارك، أي معركة الوعي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً