تابعنا
كانت الاتفاقية وقّعت في 22 من يوليو/تموز من العام الفائت بوساطة تركية ورعاية من الأمم المتحدة على شكل اتفاقيتين منفصلتين مع كل من روسيا وأوكرانيا.

نقلت وسائل إعلام روسية أن أوكرانيا عرضت على تركيا العودة إلى اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود "بلا روسيا"، أي "سواء أعطت الأخيرة ضمانات أمنية لسفن التصدير أم لا". وقد نقلت وكالة فرانس برس عن الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي قوله "حتى بلا روسيا، ينبغي فعل كل شيء لنتمكن من استخدام هذا الممر في البحر الأسود، لسنا خائفين".

يأتي ذلك بعد توقف حركة التصدير إثر إعلان روسيا في الـ 17 من يوليو/تموز الفائت انسحابها من الاتفاقية ورفض تجديدها، بسبب عدم التزام الدول الغربية تنفيذ ما عليها في الاتفاق، وفق المسؤولين الروس.

في حين يرى مسؤولون أوكرانيون أن انسحاب موسكو من الاتفاقية يندرج ضمن خطة مسبقة لها لحصار المواني الأوكرانية والسيطرة على البحر الأسود بهدف احتكار سوق الحبوب العالمي.

وكانت الاتفاقية وقّعت في 22 من يوليو/تموز من العام الفائت بوساطة تركية ورعاية من الأمم المتحدة على شكل اتفاقيتين منفصلتين مع كل من روسيا وأوكرانيا. ورغم حالة الحرب المستمرة بين الجانبين، فإن الاتفاقية ساهمت حتى وقت تجميدها من روسيا في تصدير ما يقرب من 33 مليون طن من الحبوب الأوكرانية %60 منها لدول في القارتين الإفريقية والآسيوية، وفقاً لزيلينسكي، وهو ما دعم الاقتصاد الأوكراني من جهة وخفّض أسعار الحبوب عالمياً من جهة ثانية.

سارت الآلية المتفق عليها، بما في ذلك المركز الرباعي للتنسيق في إسطنبول، بشكل جيد وفق مختلف الأطراف، إلا أن روسيا كان لديها دائماً اعتراضات على الدول الأوروبية التي لم تنفذ التزاماتها بخصوص البضائع الروسية، وفق موسكو، بما جعل تطبيق الاتفاقية غير متماثل ولا سليم وضد المصالح الروسية.

لهذا السبب، أعلنت روسيا تعليق مشاركتها في الاتفاقية أكثر من مرة احتجاجاً على "عدم التطبيق الغربي" لها، لكنها في كل مرة كانت تعود إلى الموافقة على تمديد العمل بها والمشاركة العملية بعد تواصل الجهات التركية ولا سيما التواصل المباشر بين الرئيسين أردوغان وبوتين، وبعد وعود بتسهيل الجزء المتعلق بروسيا في الاتفاقية.

بيد أن الشهر الفائت شهد موقفاً روسياً مختلفاً نوعاً ما، إذ أعلنت موسكو انسحابها من الاتفاقية، لا تعليق مشاركتها بها فحسب، إذ إنها "لا ترى داعياً لتجديدها" حسبما قال مسؤولون روس. ولئن أحالت موسكو سبب انسحابها على موقف الدول الغربية من تطبيق الاتفاقية كما سابقاً، فإن التوقيت أوحى بدلالات مختلفة هذه المرة. إذ أتى الانسحاب الروسي هذه المرة بعد التطورات الميدانية في الحرب في أوكرانيا وخصوصاً الهجوم الأوكراني المضاد، والهجمات الأوكرانية في العمق الروسي، وقرارات قمة الناتو الأخيرة في فيلنيوس فيما يتعلق بدعم كييف وتسليحها، وتمرد فاغنر الأخير، ما استدعى موقفاً روسياً أكثر تشدداً تجاه أوكرانيا والغرب.

بيد أن قرار الانسحاب تزامن كذلك مع إعلان تركيا الموافقة المبدئية على انضمام السويد إلى الناتو، وإحالة الملف لمجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان) لتداوله "في أقرب وقت"، ما يعني أن الموقف الروسي قد يكون حمل إضافة إلى ما سبق رسالة عتب واحتجاج على أنقرة.

لا أزمة بين موسكو وأنقرة وما زالت القنوات الدبلوماسية مفتوحة بينهما، وآخر تواصل كان الاتصال الهاتفي بين أردوغان وبوتين في الثاني من أغسطس/آب الجاري. إذ أكد الرئيس التركي على أهمية الاستمرار في تصدير الحبوب عبر البحر الأسود والذي سماه "جسر السلام" مؤكداً على أن "توقفه فترة طويلة ليس في صالح أحد، ولا سيما الدول الفقيرة المحتاجة للحبوب".

في المقابل، ووفقاً لبيان الكرملين حول الاتصال، أكد بوتين "استعداد بلاده للعودة إلى الاتفاق في حال نفذ الغرب التزاماته ذات الصلة"، ما يعني أن موسكو قد تركت الباب موارباً لعودة محتملة لها للاتفاق حال التزام الأطراف الأخرى – من وجهة نظرها –من خلال التفاعل مع الجهود التركية.

وبالعودة إلى لطرح الأوكراني الذي لا يرى الموافقة أو المشاركة الروسية شرطاً لتصدير الحبوب، فيمكن فهمه في إطار الضغط على روسيا وعلى حلفائها الغربيين في آنٍ معاً.

ذلك أنه في حال الرغبة بتصدير الحبوب دون الاتفاق مع روسيا أو رغماً عنها، سيكون أمام أوكرانيا خياران أساسيان إما التصدير عبر البحر الأسود بلا انتظار موافقة موسكو والتنسيق معها وإما التصدير من خلال مسار آخر عبر البر.

التصدير بلا حصول على ضمانات روسية بخصوص سلامة سفن التصدير يعني المخاطرة بإمكانية المواجهة مع موسكو في البحر الأسود، وهذا احتمال يمكن أن ينقل الحرب الحالية إلى مرحلة جديدة مختلفة كلياً. ولا يحتاج المرء إلى كثير للتدليل على عدم حماس الدول الأوروبية لهذا الخيار وترجيحهم الآخر.

الأهم من ذلك أن تركيا لن ترغب في خيار من هذا النوع يمكن أن يحول البحر الأسود إلى جبهة ساخنة بل ربما الجبهة الأسخن في الحرب الروسية-الأوكرانية، بما يمكن أن يهدد لا فقط العلاقات التركية-الروسية ولكن كذلك الأمن القومي التركي وسلامة المضائق، فضلاً عن احتمال تدحرج الحرب وتوسعها بما سيفرض على أنقرة التقرير في خيارات صعبة تتجنبها وتحرص على عدم الوصول إليها حتى اللحظة.

حتى فكرة التصدير من موانٍ بعيدة نسبياً عن روسيا لا يمكن ضمان سلامتها وعدم تعرض القوات الروسية لها من باب أن الأمر استبعاد لموسكو واستفزاز لها، وهو أمر كذلك لا تحبذه تركيا ولا الدول الأوروبية، ولكن ترغب به كييف للتحدي والحصول على دعم أكبر، ولذلك يصر بعض المسؤولين الأوكرانيين بشكل ملفت على أنه "الخيار الأسهل والأسرع والأسلم".

وأما الخيار الآخر المتمثل في تصدير الحبوب عبر البر، من خلال السكك الحديدية أو عبر الأنهار أو غير ذلك، جرت دراسته في السابق وثبت أنه يحتاج إلى وقت أطول بكثير من الخيار البحري، وينقل كميات أقل، ويحتاج إلى جهد أكبر، وترتفع لهذه الأسباب وغيرها تكلفته بما يرفع الأسعار العالمية للحبوب، وهو عكس ما يهدف إليه اتفاق تصدير الحبوب بالأساس.

يعني ذلك أن البر قد يكون خياراً مؤقتاً ومحدوداً لكمية قليلة فقط من البضائع، ولكنه ليس بديلاً حقيقياً لاتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود على المديَين المتوسط والبعيد.

خلاصة ما سبق، فإن الأسباب التي دعت إلى إبرام اتفاق الممر البحري لتصدير الحبوب ما زالت قائمة لا سيما وأن الأسعار بدأت بالارتفاع مؤخراً وظهرت في الفترة الأخيرة تحذيرات بخصوص حاجة الدول الفقيرة للحبوب مجدداً.

وفي غياب أي بديل واقعي للاتفاق، ومع الإشارة الإيجابية في الاتصال الهاتفي بين بوتين وأردوغان، يبقى الباب مفتوحاً أمام الدبلوماسية التركية للعودة بالأطراف إلى الاتفاق إما بصيغته الحالية أو بتطويره أو بتعديله لصيغة أخرى بما يحقق رضا الجميع.

وقد يكون للزيارة المرتقبة للرئيس الروسي لأنقرة مخرجات بهذا الاتجاه، إذ كان التواصل المباشر بين الرئيسين مفيداً دائماً في حلحلة الإشكالات القائمة في القضايا المختلفة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي