تابعنا
اكتسبت جولة بلينكن الحالية أهمية خاصة لأنها جاءت بعد الاتفاق الإطاري الذي جرت بلورته في باريس بمشاركة رباعية أمريكية إسرائيلية قطرية مصرية، لذلك تمحورت مباحثاته حول بحث سُبل التوصل إلى هدنة في غزة

تابعنا خلال الأيام القليلة الماضية الجولة الخامسة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى منطقة الشرق الأوسط منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المتواصل منذ أكثر من 4 أشهر، وشملت جولة بلينكن التي استمرت 5 أيام كلاً من السعودية ومصر وقطر ودولة الاحتلال الإسرائيلي والضفة الغربية.

ورغم التكرار الواضح في نقاشات بلينكن وتصريحاته، وخاصة محاولة إبراز الاهتمام بالموضوع الإنساني، فإن الجولة الأخيرة كانت تهدف -على الأقل ولو ظاهرياً- إلى إبراز وجود جهد وأمل أمريكي بالتوصل لصفقة معينة بعد مرور أكثر من 120 يوماً على العدوان، وبعد حديث عن سقوف زمنية أمريكية ارتبطت بنهاية العام الماضي أو نهاية شهر يناير/كانون الثاني 2024.

واكتسبت جولة بلينكن الحالية أهمية خاصة لأنها جاءت بعد الاتفاق الإطاري الذي جرت بلورته في باريس بمشاركة رباعية أمريكية إسرائيلية قطرية مصرية، لذلك تمحورت مباحثاته حول بحث سُبل التوصل إلى هدنة في غزة، وهي بذلك تختلف عن الجولات السابقة التي شارك فيها بلينكن في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، كتلك التي سبقت بدء الحرب البرية في القطاع.

رغم أن بلينكن كان يزن كلماته بميزان خاص، ولا يزال يتبنى موقف الاحتلال ويدافع عنه، وهو الشخص الذي أعلن مع بداية الحرب أنه يزور دولة الاحتلال كيهودي وليس كوزير خارجية الولايات المتحدة فحسب

بلينكن ورد حماس على مقترح الهدنة

تزامنت الجولة الخامسة مع رد حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على مقترح الهدنة الجديد الذي يدعو لوقف القتال لمدة 6 أسابيع، ويركز بشكل خاص على الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة على مراحل مقابل الإفراج عن أسرى فلسطينيين وإدخال مزيدٍ من المساعدات الإنسانية للقطاع، ويمكن القول إن حماس قامت بتقديم رد ذكي، ولا يختزل أياً من مطالب وحقوق الشعب الفلسطيني، ولا يضعها في صورة الرافض للهدنة كما أراد أن يصورها الاحتلال، وبالتالي أفرغت أي خطط إسرائيلية في هذا الإطار من مضمونها.

وفي هذا السياق، كان التصريح الأهم من بلينكن حول رد حماس، هو أنه يعتقد بأن الرد "يفسح مكاناً للتوصل إلى اتفاق"، ورغم أن بلينكن كان يزن كلماته بميزان خاص، ولا يزال يتبنى موقف الاحتلال ويدافع عنه، وهو الشخص الذي أعلن مع بداية الحرب أنه يزور دولة الاحتلال كيهودي وليس كوزير خارجية الولايات المتحدة فحسب.

ورغم تأكيده أن هناك أموراً من الواضح أنها غير مقبولة في رد حماس كما قال، فإن ما قاله بلينكن في الجملة الأولى إذا ما نظرنا له من زاوية أخرى بدا وكأنه يقول إن رد نتنياهو لا يفسح مكاناً للتوصل إلى اتفاق، وهذا الأمر مهم في زيادة الضغط على حكومة نتنياهو.

ويتفق مع ما سبق أن بلينكن قال إنه حذّر نتنياهو وحكومته من أفعال تؤجج التوترات وتقوّض الدعم الدولي، وتفرض قيوداً أكبر على أمن إسرائيل، وهذا التصريح وغيره في إطار جولة بلينكن يوضح أن هناك ضغطاً تشعر به الإدارة الأمريكية في مجالات ومسارات عدة، منها ضغط الرأي العام الأمريكي والمواقف الدولية المختلفة التي تطالب بوقف الحرب، وكذلك ضغط الشخصيات الأقرب لواشنطن في الحكومة والمعارضة الإسرائيلية.

مؤشرات أخرى

كانت هناك جملة من المؤشرات على وجود مسافة بين موقف نتنياهو وموقف الإدارة الأمريكية، وعقد نتنياهو مؤتمراً صحافياً منفرداً، بينما عقد بلينكن مؤتمراً صحافياً تحدث فيه هو الآخر منفرداً.

كما كان واضحاً تزايد وتيرة التحذيرات الأمريكية للحكومة الإسرائيلية مقارنة بالجولات السابقة، وحذّر بلينكن نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت -على سبيل المثال- من أي عملية عسكرية برية محتملة في رفح، في ظل الاكتظاظ الكبير للسكان الفلسطينيين في المدينة، وفي ظل القلق المصري من مثل هذه العملية.

وفي طلب يعد غير اعتيادي ويؤشر على الإشكالية بين الطرفين كان الوزير بلينكن -وفقاً لما ذكرته صحيفة إسرائيل هيوم- قد طلب لقاءً على انفراد مع رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هليفي؛ ليطلعه الأخير على تطورات الحرب على قطاع غزة، لكن مكتب نتنياهو رفض طلب بلينكن، وأفاد أنه سيُطلِع الوزير على تطورات الحرب خلال جلسة يعقدها مع كابينت الحرب.

أظهرت الجولة حرج الموقف الأمريكي وحاجته لوقف الحرب من جهة، وأظهرت أيضاً عدم ضغطه الكافي على نتنياهو، إذ يتحدث الأخير إن النصر الكامل في متناول اليد

محطات الجولة

بالطبع كانت النقطة الأهم في جولة بلينكن الأخيرة هي زيارته إلى تل أبيب ونقاشه مع نتنياهو حول مقترح الهدنة، ومع ذلك كانت محطاته الإقليمية مهمة، وبالنظر إلى أن كلاً من قطر ومصر تلعبان دور الوسيط؛ فإن بدء محطات جولة بلينكن من الرياض حمل دلالة مهمة.

ما زالت الإدارة الأمريكية -كما أوضح بلينكن- تمني النفس بمستقبل تندمج فيه دولة الاحتلال في المنطقة، وتكمل بذلك مسلسل اتفاقيات "أبراهام"، ولهذا كانت النقطة الأولى في هذه الجولة هي السعودية، إذ التقى بلينكن مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وناقش معه أموراً عدة، لكن ما لم يقله بلينكن إن معركة طوفان الأقصى جعلت التطبيع الإقليمي مع الاحتلال مع تجاوز حقوق الشعب الفلسطيني وتطلعاته أمراً صعباً.

وفيما يخص الولايات المتحدة، يُعتبر تحقيق صفقة تطبيع سعودية إسرائيلية ورقة مهمة للحزب الديمقراطي في الانتخابات الأمريكية سيجري ترويجها كأحد إنجازات بايدن، وتدرك الإدارة أن هذا صعب التحقق في ظل استمرار الحرب، ولهذا يحاولون إدراج هذا الملف جزءاً من عملية إنهاء الحرب، ويوظفونه في الضغط على نتنياهو كفرصة يمكن أن تضيع، إذا لم يستجب للضغوط الحالية لوقف الحرب.

ومع ذلك، فإنّ هذا الملف يعدّ من أعقد الملفات؛ لأنه يفتح معه مجالاً أكبر من الحرب في غزة، ويمتدّ على الأقل إلى ترتيبات الصيغ حول دولة فلسطينية في حدود 1967 على الأقل.

وفي الواقع، إن تقديم حل الدولتين من جديد مقابل تطبيع السعودية مع الاحتلال الإسرائيلي رسمياً هو فكرة واهية؛ لأن الإدارة الأمريكية لا تستطيع الضغط على حكومة الاحتلال الحالية لإدخال المساعدات الإنسانية الكافية لسكان غزة، فكيف ستضغط في مسار إنشاء دولة فلسطينية؟

نظرة واقعية للجولة

أظهرت الجولة حرج الموقف الأمريكي وحاجته لوقف الحرب من جهة، وأظهرت أيضاً عدم ضغطه الكافي على نتنياهو، إذ يتحدث الأخير إن النصر الكامل في متناول اليد، وإن تحقيق الأهداف الإسرائيلية مسألة أشهر.

لا يزال الموقف الأمريكي يعطي نتنياهو مجالات للهروب للأمام وحتى خيار توفير غطاء له من المعارضة الإسرائيلية القريبة من واشنطن؛ لإحداث تغييرات في الحكومة لا يضمن أي مسارات واقعية.

ورغم تحذيرات بلينكن المتزايدة لحكومة الاحتلال، وعدم رفض بلينكن للورقة التي قدمتها حماس؛ لا يزال الموقف الأمريكي في عمومه باهتاً، ولا يحمل أي إلزام لحكومة الاحتلال، ويشكل صدى للموقف الإسرائيلي.

وهذا الموقف الذي تشكله جولات بلينكن الخمس، يُحدث تآكلاً في صورة الولايات المتحدة ورصيدها على المدى الأقرب في الانتخابات، وعلى المدى الأبعد في موقعها ومكانتها في التوازنات التي تشكل النظام الدولي.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً