تابعنا
في نظام عالمي جديد، لم تعد الدول في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان على استعداد للبقاء تابعة لقصر الإليزيه.

قد يُنظر إلى خسارة تابع واحد من الناطقين بالفرنسية في إفريقيا على أنها محنة، لكن خسارة اثنين في غضون أشهُر تبدو مسألة غير ذات أهمية بالنسبة لإيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي الذي يبدو أنه يضع نفسه في سجلات الأرقام القياسية لتسريع زوال نفوذ فرنسا حول العالم، وبخاصة من إفريقيا.

يجب أن تكون الأخبار الواردة مؤخرا والتي تفيد بأن بوركينا فاسو تريد جلاء جميع القوات الفرنسية من أراضيها في غضون أربعة أسابيع مؤلمة لماكرون.

قبل شهرين فقط، قطعت مالي مسافة التسع ياردات وطردت الفرنسيين بينما كانت ترحب بمرتزقة فاغنر، الأمر الذي أشار للغرب أن لديه مشكلة في إفريقيا متعلقة بهيمنتها القديمة، والتي تكافح من أجل المحافظة على ماء وجهها.

فقد الغرب مالي في صيف عام 2022، واصطف النقاد للحديث عن تأثير الدومينو إذا ابتعدت دولة أخرى ناطقة بالفرنسية عن التأثير الاستعماري لباريس.

ربما اعتقد الكثيرون، بمن فيهم ماكرون، أن مالي ربما تشكل استثناء. لكن النقاد المتحمسين راقبوا بوركينا فاسو عن كثب ولاحظوا كيف بدت أنها تمر بالمراحل نفسها التي اتبعتها مالي في معالجة النظام الفرنسي لوضع نهاية له من قبيل حظر وسائل الإعلام الفرنسية، وطرد المنظمات غير الحكومية الفرنسية قبل أن تتحول أخيراً إلى الجيش الفرنسي. وهكذا لم يكن مفاجئاً عندما وردت أنباء عن مطالبة القوات الفرنسية بمغادرة بوركينا فاسو.

طلب ماكرون توضيحاً بشأن ذلك، حيث قال للصحفيين إن هناك ارتباكاً في وسائل الإعلام وإنه يريد سماع الأمر بشأن انسحاب القوات من رئيس مالي نفسه.

حَلْبٌ مالي

يوجد لفرنسا 400 جندي من القوات الخاصة يتمركزون هناك لمحاربة ما يفترض أنه تمرد، لكن العلاقات الثنائية تدهورت في الأشهر الأخيرة.

وطالب المتظاهرون فرنسا بانتظام بسحب قواتها من بلد الساحل، وكانت أحدث مظاهرة في 20 يناير/كانون الثاني الماضي. تعاني بوركينا فاسو أيضاً من انتفاضة بسبب تأثير مالي المجاورة في عام 2015.

بين هذين الحدثين في مالي وبوركينا فاسو الرافضتين للفرنسيين، كان هناك مقطع فيديو مثير لرئيسة الوزراء الإيطالية الجديدة جيورجيا ميلوني.

اتهمت ميلوني، بطريقة لا يمكن وصفها إلا بالتشدق المناهض للفرنسيين، الإليزيه بالتلاعب بدول غرب إفريقيا من خلال العملة الموحدة التي أنشأتها فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية واحتياطيات العملات الأجنبية، بما في ذلك الذهب، التي يتعين على هذه البلدان الاحتفاظ بها في البنوك الفرنسية.

كانت معظم هذه الخطابات غير صحيحة من الناحية الواقعية، لكن جوهر نوبة الغضب الإيطالية كان اعتقاد ميلوني بأن الاتحاد الأوروبي لن يواجه أزمة مهاجرين إفريقية على شواطئه الجنوبية إذا لم تكن فرنسا تنفذ عمليات قتل في إفريقيا من خلال هيمنتها.

قد يكون لوجهة النظر هذه وجاهة. يبدو أن التلاعب يقع في قلب علاقة ماكرون بإفريقيا. وقد استيقظ السكان المحليون وهم غاضبون جداً من الجانب الشائن للعلاقة مع الإليزيه.

مالي أولاً، ثم بوركينا فاسو، وربما حتى جميع البلدان الناطقة بالفرنسية في إفريقيا، ستقع في دائرة نفوذ روسيا والصين. كما تظهر تشاد أيضاً علامات على التململ والرغبة بالتخلص من قبضة ماكرون والإليزيه غير المستساغة.

العالم الفرنسي كما نعرفه ينفجر من الداخل، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن معظم هذه المستعمرات السابقة في إفريقيا تعاني من الإنهاك بسبب الغطرسة الشائنة التي تأتي مع كونها فرنسية. ولا يمكن ترك الأمر من غير إيقاع اللوم على ماكرون.

في المغرب، البلد الذي قد يعتبره الكثيرون الأقرب بين جميع الدول الإفريقية، والذي كان يحكمه الفرنسيون ذات يوم، تصلي النخبة من أجل اليوم الذي يلقي فيه الملك أوامره لكي يطردهم أيضاً. لقد سئم المغاربة من النغمة الأبوية المتعالية التي لا تزال ترن في آذانهم، والتحول إلى اللغة الإنجليزية على جميع مستويات المجتمع أمر غير عادي.

بالطبع، لا يعود الأمر إلى ماكرون بالكامل، حيث إن جزءاً من هذا التأرجح في إفريقيا هو الشعور بإجهاد أوسع سببه الإنذارات التي وجهتها الولايات المتحدة إلى البلدان الإفريقية مؤخراً عندما بدأت حرب أوكرانيا، والتي أدت إلى نتائج عكسية بشكل مذهل.

إن غطرسة جو بايدن في الاعتقاد بأن أمريكا لا تزال قادرة على توجيه هذا النوع من التهديدات إلى دول الجنوب العالمية أمر مروع. وقد كان الصمت الذي بدى عليه علامة واضحة وذلك عندما رفضت معظم إفريقيا أن تتعرض للتخويف بسبب العقوبات الأمريكية ضد روسيا.

وهذا، جزئياً، هو ما يدور حوله تراجع النفوذ الفرنسي. لكن الأمر يتعلق أيضاً بموقف يورّثه ماكرون للقادة الأفارقة الذين سئموا منه بشكل واضح في نظام عالمي جديد، حيث يكون لعدم الانحياز مزايا أكثر بكثير من الارتباط بالخيال الفرنسي للاستعمار في القارة.

بالنسبة للعديد من القادة الأفارقة، ربما لم تكن حرب أوكرانيا أو إحساس ميلوني على الإنترنت هو الذي دفعهم إلى تجاوز الحد. ولا حتى الوجود المخادع للقوات الفرنسية في مالي، إذ أعلن ماكرون للعالم أنه كان هناك لمحاربة الإرهابيين، غير أنه في الواقع كان هناك لحماية الشركات والمواطنين الفرنسيين.

في الحقيقة، إن إعلان ماكرون الأخير بأنه لن يعتذر عن الإرث الاستعماري الفرنسي في الجزائر، الذي خلف ما يقدر بنحو 1.5 مليون من مواطنيها، يمثل كل ما هو خطأ في ماكرون وفرنسا والفرنسيين بشكل عام.

في إفريقيا، كانت النخب تنتظر لعقود من الزمن تلك اللحظة التي يحاول فيها الفرنسيون تقديم اعتذار للملايين الذين نزعوا إنسانيتهم واستعبدوهم.

فقط في السنوات الأخيرة استيقظت هذه البلدان وأدركت أن هوية أن تكون فرنسية، وكل ما تمثله هذه الهوية، ليست حقيقية. حتى أولئك الذين ولدوا في فرنسا ويندمجون في المجتمع الفرنسي، مثل النائب كارلوس مارتينز بيلونجو، الذي طلب منه نائب فرنسي "العودة" إلى إفريقيا.

لن تتأثر البلدان الفرنكوفونية بعمليات التخويف بعد الآن. إنهم يعرفون أن الوعد الفرنسي غير المعلن بالحماية لِنُخبهم إذا واجهوا تمرداً سياسياً مجرد وعد فارغ.

إنهم يتطلعون إلى روسيا للحصول على مثل هذه الضمانات، التي لا ترسل وزراء خارجيتها إلى القارة لإلقاء محاضرات حول حقوق الإنسان، ولكنها ترسل ببساطة جنوداً.

إنهم يتطلعون إلى الصين للتجارة والاستثمار والمغرب للحصول على خدمات مثل البنوك والمساعدة في أزمة المناخ.

كل هذا جزء من نظام عالمي جديد، إعادة ترتيب عظيمة تحدث عنها الكثيرون لكن قلة يفهمونها. وهي إعادة ترتيب يدعمها ماكرون عن غير قصد بغروره الاستعماري المتغطرس لذي عفا عليه الزمن. هذا يقلق الاتحاد الأوروبي ويخيف الأمريكيين.

في الأيام القليلة الماضية فقط، ورد أن بايدن يسعى إلى جعل المغرب قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة، مع الإبقاء على صناعته العسكرية الخاصة وحتى المساعدات العسكرية، وكل ذلك جزء من استراتيجية لمواجهة المكاسب الروسية في القارة.

قد لا يكون التاريخ لطيفاً مع ماكرون، الذي يعتبر جزءاً من هذه الحرب الباردة الجديدة التي تتكشف في القارة. وكما كتب تشرشل، فإن التاريخ يكتبه المنتصرون.



جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي
الأكثر تداولاً